منجد أبو شرار
شَكلَّت عملية المقاومة في السابع من أكتوبر “طوفان الأقصى” وتداعياتها صدمة حادة بالمفهوم النفسي لمجتمع/ أشتات المستعمرة الصهيونية، وأفضت إلى نسف قيمة أمنه الهشة القائمة على الإحساس الفردي به، كما أوقعت الدولة الصهيونية وجيشها المُثقلَين بالعُقَد النفسية والنقائص التاريخية أصلاً، في ورطة وجودية بالمعنيين السياسي والمعنوي، تمحورت حول الفشل الأمني والعسكري والاستخباراتي.
على المستويين السياسي والمعنوي، تجلى هول الصدمة ابتدءًا في الأهداف الخيالية غير قابلة التطبيق التي راح يطلقها قادة المستعمرة، وتخفيضها لاحقا لأهداف مائعة، وما أفصح عنه شطط تصريحات هؤلاء من نوازع ومكنونات استعمارية توراتية وصهيونية بالغة الإجرام والبطش والوحشية، سرعان ما تجسدت في ارتكاب الجيش الصهيوني أكثر من ألف ومئة مجزرة بحق المدنيين الفلسطينيين، وإبادة عائلات وأحياء بأكملها، وقصف المستشفيات والمدارس ومراكز إيواء النازحين التابعة للأمم المتحدة. كل ذلك لم يكن كافيًا ليُطفئ لهب الوحشية والانتقام الصهيوني، ولم يسترجع للمستعمرة المنبوذة وأشتاتها الغرباء ما فقدوه من هيبة وقوة زائفة، كل هذا الدم والخراب لم يُسعف المستعمرة بربع صورة نصر، بل أي نصر.
لجأ قادة المستعمرة الصهيونية وجيشها إلى ما ظنوه حلاً مُبتكرًا، كان الفلسطينيون قد خبروه في كل الموجهات حتى صار لهم نَذير مجزة؛ صناعة رمزٍ ما، لا يهم إن كان مدنيًا أو عسكريًا، المهم أن يكون مُحملًا بمعاني الوحشية والتخلف و”الإرهاب الفلسطيني”، وتعبئته بالمزيد منها، بحيث تكون الإطاحة به كفيلة ببناء صورة نصر تتسع لقاذفات قنابل “الجيش الذي لا يَقهَر” إلا نفسه، كما ثبت.
في سكرة جنون العدوان وقع الاختيار على مستشفيات غزة، لا سيما مجمع الشفاء الطبي، وهو الأكبر في القطاع، الذي لطالما عملت الدعاية الصهيونية وأجهزتها الإعلامية على أرهبته، ووصفه بأنه مركزًا لإدارة العمليات العسكرية للمقاومة في القطاع، وتضخيم رمزية هذا المجمع الطبي كأنه “مجمع قيادة المقاومة” وأن السيطرة عليه تعني القضاء على الإرهاب الفلسطيني والانتصار الحاسم عليه، في حين أنه لا يعدو في حقيقته عن كونه مركزا لعلاج جراح الناجين من أطنان المتفجرات التي تُلقى على رؤوس الغزيين، ومكانًا تبيت في ثلاجاته أشلاء من لم ينج تمهيدا لدفنها.
لكن ما الذي يمنع الجيش من تكرار مجزرة مستشفى المعمداني، ونسف مجمع الشفاء وغيره من المستشفيات التي تحاصرها الدبابات و”كواد كابتر”؟ المانع لازمٌ ومؤقت، بدافع مواصلة تضخيم رمزية الخصم المصطنع والانتصار الوهمي المرتقب، حتى يصار عبر القضاء على هذا الرمز إلى محاولة إعادة ترميم قوة الردع التي حطمها رجال المقاومة في السابع من أكتوبر، من خلال حشد مؤسسات الإعلام لتهيئة الرأي العام الصهيوني لتقبل هذا الوهم، وترقيع الثقة في مؤسسة الجيش وفي المشروع الصهيوني برمته كقاعدة استعمارية متآكلة عاجزة عن حماية نفسها، أمام إنجاز عسكري شبه صفري إلا من دماء أكثر من 11 ألف مدني آمن.
هذه الوصفة الرخيصة الممزوجة بالعَته والجنون والدجل لصناعة نصر وهمي، هي عمود الأساس لاستراتيجية العدوان الحالي على القطاع، ولن تعيد شيئا مما فقدته المستعمرة الصهيونية في السابع من أكتوبر، فقد كان الطوفان جارفًا وما زالت السيوف من خشب.
