loading

الذاكرة الجمعية: صراع جنين مع الاحتلال.

هبة حمارشة

مررت يوم الخميس 02/11/2023 من الشارع الرئيسيّ لمخيم جنين، الواصل بينه وبين القرى جنوب غرب المدينة، زيارة عابرة عائدة الى منزل عائلتي، حينها التقطت صورة لدوار العودة، مدخل مخيم جنين الغربيّ. في ذات الليلة اقتحمت قوات الاحتلال الاسرائيليّ المدينة وطافت حول المخيّم وأكملت التدمير الذي سعت له في كلّ اقتحام لها، وحطّمت دوار العودة. 

يحمل دوار العودة خارطة فلسطين التاريخيّة وأسماء جميع المدن الفلسطينيّة، التي هُجّر منها الأهالي الى مخيّم جنين، والتي لاحقاً تغيّرت أسمائها نتيجة لسعي المُستعمِر لخلق هويّة خاصّة به، كما يحمل الدوّار صورة الشهيد جميل العموري وبرفقته صور لشهداءَ من جنين. 

قامت قوّات الاحتلال الاسرائيليّ ومنذ بداية العدوان على غزّة، بشنّ هجومٍ شرسٍ واعتقالاتٍ همجيّة واقتحامات مستمّرة للمدن والقرى والمخيمات في الضفّة الغربيّة، بيد أنها ركّزت على مخيم جنين في اقتحاماتها، والتي استّمرت لساعاتٍ في كلّ مرّة. بدأت الحالة بتحطيم صرح الشهيدة الصُحفيّة شيرين أبو عاقلة، الذي دُشنّ في شهر مايو الحاليّ وبعد سنة على استشهادها برصاص قنّاص اسرائيليّ، في مخيّم جنين، حيث رافقها تجريف للشارع على طوله، وبذلك يكون الصرح قد دمّر للمرّة الثانية خلال أربعة أشهر (تم تدميره خلال الاجتياح الأخير للمخيم/ تموز ٢٠٢٣). 

دمّرت الجرافات العسكريّة من نوع D9 على مدار أسبوع كامل، شوارع مدينة جنين المؤدية الى المخيّم، بعد أن تم إعادة تأهيل ما نسبته ٩٥٪ منها بفعل الاجتياح الأخير -بحسب الصُحفيّ عمرو مناصرة-، وركّزت آلة الدمار على المعالم الرمزيّة من دوارات المدينة وصروح الشهداء والرموز الحجريّة الوطنيّة، في حملتها المُستعّرة لاغتيال الذاكرة الجمعيّة للمدينة ومخيمها، فكلّ صرح وكلّ تذكار وكلّ دوّار يحمل اسم شهيدٍ خلق حالة وطنية ارتقّت لتضيّق على المحتّل.

تنشأ الذاكرة الجمعيّة من وحي تكاتف الذاكرة الفرديّة- المرتبطة بألم وجود المُستعمِر، والذي استهدف الحياة بشكلها اليوميّ، وتأخذ هذه الذاكرة قيمتها من الأفكار والقيم المهيمنة في مجتمع ما خلال مرحلةٍ تاريخيّة معيّنة، وتستند عليها لتشكيل صورةٍ عن الماضي مناسبة للقيم الحاليّة، كما يراها عالم الاجتماع الفرنسيّ موريس هالبفاكس في كتابه “الذاكرة الجمعيّة”. ويشير موريس الى أن المصطلح بحدّ ذاته يساعد في فهم الروابط والتمثّلات المُشتركة في مجتمعٍ ما، والطريقة التي تتشكّل وتُطرح فيها الأحداث المفصليّة التي عاشها أو سمع عنها أفراد هذا المجتمع.

عَمِدت قوات الاحتلال الى تدمير ما يربط المخيّم بماضيه وحاضره، فسرقت الحصان -من ميدان الحصان، الشاهد الأخير على اجتياح المخيم ٢٠٠٢- والذي تم بناؤه من بقايا سيارات الإسعاف التي قصفت خلال نفس الاجتياح، وحطمّت صور شهداء عائلة الزبيدي (الأم سميرة الزبيدي، وابنائها طه وداوود ونعيم) المتواجدة على الدوار، وعلى مدار عشرة أيام، دُمِّر كلّ من دوار الأحمدين (الشهيدين أحمد نصر جرار وأحمد إسماعيل جرار) وصرح الشهيدة دلال المُغربي، وصرح الشهيد جميل العموّري، ودوار الشهيد زياد الزرعينيّ ودوار البطيخة ودوار الشهيد خالد نزال (أحد رموز الثورة العسكريّة الفلسطينيّة)، بالإضافة الى تسوية قوسات “مدخل المخيّم الرئيسيّ” بالأرض.

شكلّت الحالة النضاليّة في مدينة جنين ومخيّمها خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، إعادة الإنتاج للمقاومة عبر تأسيس كتيبة جنين، والتي تبعها خلال الفترة تأسيس عدّة كتائب وخلايا مسلحّة في الضِفة الغربيّة. وقدّمت كتيبة جنين ولا زالت، كوكبةً من الشهداء، أولهم أحد قادة ومؤسسي الكتيبة الشهيد جميل العموّري، ليسير على دربه رفاقه. ساهمت هذه الحالة في تماسك أبناء المدينة، خلف المقاومة ومخيمها ليشكّل المخيّم الحيّز الذي يحمل معنى مشترك بين أفراده. 

تسعى دولة الاحتلال الى السيطرة على الحيّز المكانيّ (المخيم) في إطار السيادة على الأرض، وهو ما قلقت منه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، فقد شكّّلت الحالة النضاليّة في جنين سبيلاً لبناء ذاكرة جمعيّة مرتبطة بالحرية، وساهمت في إعادة بلورة جغرافيا المدينة، وتمحورت حول الحالة ذاتها، التي أعادت تسمية الأماكن بارتباطها بالشهداء، حيث أُطلق اسم الشهيد زياد الزرعينيّ (ابن الأجهزة الأمنيّة) على دوار الداخليّة البعيد بضعة أمتار عن المقاطعة -مقّر الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية- خلال اقتحامين مختلفين وأًطلق اسم الشهيد صائب الزريقي على دوار البطيخة. (استشهدوا عام 2022)، حيث تكوّنت الذاكرة الجمعيّة للسكّان بناءً على حدث واحد وعمق زمنيّ وأرض ذات حدود. 

في حين أن جرافات الاحتلال انتقمت من مدخل المخيّم “قوس النصر”، على مدار ثلاثة اقتحامات الى أن سوّوه بالأرض، استهدف الاقتحام الأول القوسات وبقي العمود الأساسيّ لمدخل المخيم صامداً، وفي الاقتحام الثاني هدموا عمود ومفتاح العودة المعلّق عليه، وبقي اسم القوس “النصر”، وأشار أهالي المخيّم الى أن الدمار كان للحجار بيد أن الاسم ظلّ ثابتاً -بحسب شهادات الأهالي نقلاً عن الصُحفيّ عمرو مناصرة-، الى أن دمره الاقتحام الثالث بشكلٍ كامل وصادروا صور الشهداء واللافتات.

ارتبط مدخل المخيّم بالعروضات العسكريّة لكتيبة جنين وخطابات المبايعة للكتيبة، كما أنّها محطّة أمان للزائر، وذلك “لأنه بحماية مخيّم جنين”.

المفارقة العجيبة هنا، أن السياق الاستعماري لدولة الاحتلال بنى الذاكرة الجمعيّة للمستوطنين متمركزةً على أن قصة الجنود “مقاتليه” هي قصّة المجتمع وثقافته، وكرسّ الخطاب الأمني القائم على مركزيّة الجيش والأمن في المجتمع الاسرائيليّ، كنظامٍ ثقافيّ ورمزيّ. ووفقاً للبحث الذي أجراه البروفيسور أودي لابيل، الباحث في علم اجتماع الذاكرة الجماعية في جامعة “ارائيل” ومركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجيّة، فإن 10% من المستوطنات/ المستعمرات سميّت بأسماء لها دلالات عسكريّة أو تم تسميها على جنود قتلى سقطوا في مواجهاتٍ ومعاركَ مع المقاومة الفلسطينيّة.

وترى دولة الاحتلال في جنودها القتلى في معارك السيطرة على الأراضي الفلسطينيّة رموزاً يمكن تكثيفها لضمان استمراريّة تأثير الهويّة القوميّة التي تشكّل الذاكرة الجمعيّة للمستوطنين، ولذلك يوجد على مداخل المستوطنات نصب تذكارية لجنود قتلوا في المعارك في محاولة لإنتاج معنى جديد لحركة الاستعمار على الأرض يساهم في تشكيل الذاكرة الجمعية برعاية الدولة.

إن هذا النظام يقوم على إنتاج الرموز والأساطير باستخدام الجغرافيا لخلق هوية قومية، وعلى مر السنين شكلت أسماء المستوطنات الوعي في الجيل الذي شهد نشأتها، كما هو الحال مع مستوطنة “تسور يتسحاق” التي سميت على اسم رئيس الوزراء الاحتلال يتسحاق رابين أحد الرموز العسكرية الإسرائيلية.

لن تكون هذه المرّة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال الرموز التي تُشِّكل قيمة نضاليّة لدى السكان، وخاصة ضمن العدوان المستمّر وليست الأخيرة كما هو واقع الحال، إذ أن تحطيم النصب التذكاريّة للشهداء هي الهدف الأول لجرافات الاحتلال للانتقام من صانعيه بعد أن انتقمت من شخوصه.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة