loading

الموتُ في غزّة ليس كافيا لتقف الحياة هنا..

ياسمين الأزرق

انتشرت في فلسطين ولدى مشهوري مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات العامة التابعة لمحلات تجارية ونقاط البيع الإلكترونية (الأون لاين)، ظاهرة استمرار الحياة مع تشويشة بسيطة تتداخل فيها موجة غزّة مع موجات بقية القنوات الترفيهية لدى المشاهد الفلسطيني والعربي.

ينشرُ البعض صورته الشخصية أو صورة للمنتج الذي يبيعه، وخوفًا من التعرض للنقد، تجده يعتذرُ لأهالي غزة، ويدعو لهم بالنصر، ويلمّح بطريقة ما للمتابع أن الحياة مستمرة، لكنه لم ينسَهم، أو أنه ينتظر أن تُغرقه الانتقادات ثم يخرج متباكيًا معتذرًا ويسهب في سرد اعتذاراته، بطريقة مبتذلة، خوفًا من سقوط متابعٍ من واجهة الأرقام الإلكترونية خاصته.

في عيد الحب مثلًا، تجدُ منشورات الصفحات متدافعة لترمي إعلانها حول عروض هذا اليوم الأحمر، مع عبارات محفّزة لاقتناء هدية مميّزة للحبيب، وفي سطرٍ لا يُقرأ غالبًا، يعتذر الناشر لغزة وشعبها، غير مكترث بالأحمر الذي يملأ شوارع غزة، مختلطًا بماء المطر والوحل وبقايا المنازل المدمرة، ولا بصفوف البطالة الناجمة عن الأحداث التي حاصرت فلسطين منذ بداية أكتوبر من العام الماضي، فمن أراد غض الطرف عن غزة ليقتني هدية جديدة للمحبوب، فإن جيبه الفارغ سيسحبه إليه حين يمد يده فيه كي يشتري هدية!

صرخات غزّة تُباع في تصاميم خاصة في الأسواق

أما المشهد الأكثر قسوة في ظاهرة استمرار الحياة، فهو ترويج المنتجات التجارية من الملابس والإكسسوارات، من خلال استخدام صرخات أهالي القطاع من ذوي الشهداء والجرحى، ممن بكوا فقدهم فصرخوا بعبارة التصقت مثل الوشم في صدورنا ورؤوسنا، فتجد عقدًا مطليًّا بالذهب يحمل عبارة “روح الروح” التي صرخ بها الجد وهو يقبّل عيني حفيدته ريم ويحاول فتحهما وهي بين يديه جُثة لا روح فيها، أو قميصًا طُرّزت عليه كلمة “معلش” التي قالها الصحفي وائل الدحدوح مكلومًا حين فقد ابنه وزوجته وحفيدته في ليلة حربٍ واحدة.

هدايا بذريعة التضامن مع غزة

ومنهم من يروّج لمنتجاته باستخدام شعارات المقاومة، كالمثلث المقلوب والفدائي الأنيق و صرخة المقاوم الشهيد صاحب عبارة “حلّلها يا دويري”، أو يستخدم الكوفية في تصاميمه بحيث تكون مطرّزة على السُّتر اليومية والعباءات النسائية المعلن عنها ضمن القطع المميزة في “كوليكشن” رمضان، أو الحقائب الفخمة ذات الأسعار المرتفعة، هم بذلك يواصلون أعمالهم وهم مرتاحي الضمائر، والزبائن أيضًا يمارسون هواية التسوّق ببالٍ مرتاح ونفسٍ راضية، ويمكن الآن للحبيب أن يحتفل بحيبيبته في عيد الحب بإهدائها عقد ذهبٍ لخارطة فلسطين، أو ساعة تزينها الخارطة، شعائر احتفال بطابع فلسطيني! ومع اقتراب رمضان يمكن وضع زينة رمضان في مختلف زوايا المنزل، المهم أن تُعلّق في وسط الحائط مرآة على شكل الخريطة الفلسطينية مضاءة من كل الجوانب، فيكون احتفالًا فلسطينيًّا أيضًا، ولا عتب حينها على المحتفلين إن أظهروا شعائر الفرح دون اكتراث لما كانوا قد نشروه سابقًا على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي “لا يألفنَّ أحدكم مُصابَ أخيه -وإن طال-، ولا يغفلنَّ بالدعاءِ عنه متى بقيَ البلاءُ أو زال”، فهل ندعو بأن تقف الحرب على غزة لكي يخرج من بقي فيها من هذه الحرب حيًّا ويبينها لجيلٍ قادمٍ، ويأخذ فرصته بالبكاء على ما فقده من أهلٍ، أصدقاء، بيتٍ، ذكريات ومقتنيات، أم ننشر دعوانا على قصصنا الإلكترونية، كي نريح ضمائرنا وأملًا في أن نسرّع عجلة الحياة فنعود لممارسة ما اعتدناه في أيامنا دون أن تُعكر الحرب صفو الصورة المنشورة؟

في اليوم الـ 130 من الحرب على غزة، لا حدود للخراب في القطاع، وقمصان الأطفالِ لم تجف بعدُ من الدماء، والأمهات ثكالى والأراملُ لا عدّة لهنّ فلا بيت يقعدن فيه، وكل محبّي كرة القدم المحاصرين في غزة لم يشاهدوا كأسي أمم آسيا وأفريقيا، ولم يروا من رفع علم فلسطين في المدرجات، ولا من كتب عبارة تضامنية على اللافتات، متاجرُ العشاق لم تُقفل أبوابها بل هُدمت على رؤوس الباعة، ولا شيء أحمر اللون يشتريه العشاق في غزة غير الدمِ المهدور دون ثمن، ولو وجدَ حبّة طماطم لكانت أفضلَ هدية لحبيبته الجائعة مع منع دخول قوافل المساعدات إلى القطاع، أما مع اقتراب شهر رمضان، فلا مائدة تجمعُ العائلة، البيوت مدمرة بما فيها، وإن وجدت بيتًا صامدًا أمام الدمار، فقد لا تجدُ ساكنيه، كي يجلسوا فيه قُبيل الأذان، ليشكروا الله على “دوام النعمة”.

فبأي حقٍّ نرى ظاهرة استمرار الحياة، والموتُ يعوي في آذاننا ليسرقَ في اليوم الواحد عشرات ومئات الأرواح المحبة للحياة؟

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة