علا يوسف
خلف جدار الفصل العنصري، وبين الأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة، وعلى أطراف قرية مسحة غرب مدينة سلفيت، تعيش عائلة العامر في منزلهم الذي تحول إلى أكثر الأماكن خطراً وضيقاً للسكن في العالم.
ليس لدى العائلة طرقات آمنة تربطهم بباقي القرية ومنافعها، ويحتاج فتح الأبواب الخارجية المحيطة بالمنزل من الاتجاهات كلها لإذن دخول وخروج من قبل جنود الاحتلال.
حدث ذلك بعد أن أقيمت مستوطنة الكاناة عام 1978 على أراضي القرية، وأصبح المستوطنون جيران العائلة الوحيدين، وانعزل المنزل تماماً عن القرية بعد بناء جدار الفصل العنصري.
تفصل العائلة عن القرية بوابتان حديديتين مفتاح إحداهما مع الاحتلال والآخر مع العائلة، يغير الاحتلال أقفاله وقتما يشاء دون اعتبار لساكنيه، وفي حال نسيان الباب الداخلي مفتوحا لفترة قصيرة. سرعان ما يتحرك جنود الاحتلال، أو يأتي للعائلة اتصالاً من حارس المستوطنة الذي يراقب المنزل عبر الكاميرات ويهددهم باتخاذ إجراءات تعسفية بحقهم.
رغم كل هذه التحديات، أصرت العائلة على البقاء في منزلها المحاصر -بوحشية- الاحتلال، وزرعت العائلة الورود والأشجار حولها من كل صوب، كمحاولة للتغلب على الواقع المرير الذي يحيط بهم، فمأساة عائلة العامر كانت وما زالت مثالاً حياً لعائلة صنعت في كل يوم شاهد على إرادة لا تكسر أمام كل المحاولات الإسرائيلية للتنازل عن المنزل لمصلحة المستوطنة.
محطات في حياة عائلة العامر..
بدأت معاناة الأب الراحل هاني العامر وهو طفل، حيث هُجرت عائلة جده عبد الله عامر العامر من بلدة كفر قاسم عام 1948، كما هُجر آلاف الفلسطينيين من أراضيهم وهاموا في أصقاع الأرض بحثا عن مكان يأويهم، وفقدت العائلة كل ما تملكه من مال وأرض، وفقدت آنذاك معيل الأسرة الوحيد إثر استشهاده على الطريق. ثم سارت وحيدة بلا مال ولا مأوى، محاولة إيجاد قطعة أرض قريبة من كفر قاسم على أمل العودة، -يوما ما-. حتى سكنوا قرية مسحة غرب مدينة سلفيت وسط الضفة الغربية حينها اعتقدوا أنهم سيبدؤون حياة مستقرة وهادئة.
وفي العام 1970 اشترى المواطن هاني العامر قطعة أرض بمساحة 3 دونمات، إلى الغرب من قرية مسحة، وأقام عليها بيتاً آملاً في بناء حياته من جديد. 1975
كان ذلك كله قبل أن أقيم أول كرفان لمستوطنة “الكاناة” غير الشرعية على أراضي قرية مسحة في العام 1975، والذي كان يبعد الكرفان عن منزل هاني العامر ما يقارب الكيلومتر، لكن سرعان ما بدأت تتوسع الكرفانات وتقترب من المنزل، حتى أصبحت بيوت المستوطنة ملاصقة لمنزل العامر.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، ففي العام 2003-2004أقام الاحتلال جدار الفصل العنصري حول المنزل وفصله عن القرية، وأبلغ عائلة العامر بالرحيل من المنزل تمهيداً لهدمه، ظناً منه أن العائلة ستتخلى عن مأواها.
في اليوم الأول، وبعد أن انتهى الاحتلال من بناء الجدار، أغلق الاحتلال البوابة، كان نصف العائلة خارج الجدار مع أبناء القرية ونصفها الآخر في الداخل، اقفلوا الأبواب وذهبوا وتركوا العائلة مشتتة.
وفي اليوم التالي، منع الاحتلال المتضامنين والزائرين من الدخول للاطمئنان على عائلة العامر، وفرضوا شروطاً صارمة للعيش في المنزل من بينها: فتح البوابة المحاطة بالمنزل من قبل جندي لمدة ربع ساعة يومياً، ومنع الزيارة لغير سكان المنزل، ويمنع أهل المنزل أو الزائرين من استخدام الكاميرات والتصوير، ويمنع اللعب بـكرة القدم أمام المنزل، ويمنع اقتراب السيارات من البوابة. رفضت العائلة كافة الشروط اللاإنسانية المفروضة عليهم والتي تحرم العائلة من أبسط مقومات العيش.
وفي 25 أيار من العام 2021 تصدر خبر وفاة المقاوم هاني العامر “أبي نضال” مواقع التواصل الاجتماعي والصحف المحلية، فقد رحل الرجل الصلب المقاوم صاحب “دولة هاني العامر” الذي استطاع بصموده هو وعائلته أن يكبل يد الاحتلال من بسط نفوذها وتوسعها الاستيطاني في المنطقة.
تقول زوجته منيرة العامر “أم نضال”: لقد بذلنا جهداً استثنائياً أنا وزوجي قبل وفاته من أجل تأمين حياة طبيعية لأبنائنا وسط كل هذا الحصار، وتعاهدنا أن نبقى معاً حتى الممات، وأن نحافظ على كل ذرة تراب، هذا البيت تاريخنا، ماضينا ومستقبلنا، وهذه الحقيقة لن تتغير تحت أي ظرف.
وتضيف: اعتدنا أن نبدأ صباحنا على صوت آليات الاحتلال العسكرية التي تتجول أمام المنزل، كان ذهاب الأطفال إلى المدرسة هاجساً لنا دوماً، ماذا لو عادوا في غير موعدهم المعتاد؟ كيف يستطيع الأطفال فتح أقفال الأبواب الحديدية المحيطة بالمنزل من كل جانب؟ ماذا لو حدث طارئ على وضع أفراد الأسرة الصحي خلال ساعات الليل؟ ماذا لو احتجنا لشراء ذرّة ملح؟ كم باب وقفل وإذن نحتاج لكي نصل البقالة أو المركز الطبي؟
تروي لنا “أم نضال” قصة طفلها عندما كان صغيراً واجتاز الأسلاك التي تفصل المنزل عن المستوطنة ليصل إلى داخلها ولم تتمكن من جلبه حتى جاء الجنود بعد فترة طويلة من الزمن وكان قد وصل إلى منتصف المستوطنة ولم يستطع العودة، وتقول: كانت كل دقيقة تمر وكأنها سنة من شدة خوفي عليه، أمام عيني ولم أستطع أن أصل إليه لإرجاعه، وكأننا مسجونون.
يجتمع الأحفاد كل يوم تقريباً في منزل جدتهم، يمارسون هناك ألعابهم البسيطة، يتسابقون، ويطلقون ضحكات طفولية بريئة، ولكن سرعان ما تتغير ملامح السعادة لدى هؤلاء الأطفال، بمجرد سماع صوت الآليات العسكرية أو رؤيتهم لجنود يقتربون من حدود المنزل.
وتقول أم نضال: اللعب بجوار الجدار الفاصل وعلى الطريق الذي قد تقتحمه آليات الاحتلال في أي لحظة كيفما تشاء يعني على الأطفال الاستعداد الدائم للهروب، خوفا من مواجهة غير متوقعة. كل ما يبحثون عنه هؤلاء الأطفال هو مساحة للعب. لكن، بسبب وجود المستوطنة، حتى لعبة كرة القدم باتت ممنوعة لأنهم يعتبرونها تشكل خطرا على المستوطنة ومنازلهم المحاذية، نحن هنا دائما قلقون على الأطفال عندما يخرجون للعب، قلوبنا تخفق وعيوننا ترقبهم في كل لحظة.
ومع اقتراب غروب الشمس، تقف أم نضال عند عتبة منزلها، تنظر إلى أشجار الزيتون التي تُحيط بالمنزل، وكأنها تقول للعالم أجمع إن هذه الأرض، رغم كل ما تتعرض له، لا تزال نابضة بالحياة.
تدرك العائلة أن هذه التحديات لن تنتهي، لكنها ترى نفسها كجزء من معركة مستمرة من أجل البقاء، تزرع في الأجيال الجديدة قصة صمود لا تُنسى.
بيت لا يشبه غيره في أي مكان بالعالم، يسرد حكاية عائلة تشبثت بجذور أرضها كالجذور العميقة لأشجار الزيتون التي ترفض الانحناء، حتى في وجه أقوى العواصف.
إن مثل هذه العائلة الكثير من العائلات الفلسطينية اللواتي يواجهن تحديات كبيرة في مواجهة احتلال استبدادي مارس ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود شتى أنواع التهجير والتنكيل والسيطرة على الأراضي.