روند التتر
في أحد الأحياء المكتظة بالسكان في حي التفاح شرق قطاع غزة تقف الشابة الثلاثينية بركة بهار ، أمام بيتها الذي تحول إلى أنقاض عقب قصفه من قبل جيش الاحتلال الاسرائيلي في محاولة منها لاستيعاب فقدان كل شيء، حيث كانت هذه الأنقاض يومًا بيتًا صغيرًا بمساحة 90متراً، يضم ورشتها الصغيرة التي أسمتها “آمال”.
هنا تعيش مع زوجها وأطفالها الستة، تجمعهم غرفة ضيقة، وهناك ورشتها الصغيرة مكاناً ينبض بالحياة، ضوء خافت من مصباح معلق بالسقف، والماكينات كانت تعمل بلا توقف، وصوت الخياطة يكسر صمت الحي بين الحين والأخر. كل زاوية من هذا المكان كانت تحمل بصمة من عملها، من الخيوط المتشابكة على الطاولة إلى بكرات القماش المتراكمة في الزوايا.
محلها ورغم بساطته إلا أنه كان وِجهَة للكثير من النساء في الحي. كانت تستقبل به الزبائن بابتسامة وسط فوضى القماش الملون والخيوط المبعثرة. فكان المكان ورغم ضيقه يحمل روحاً دافئة، حيث “آمال” لم يكن مجرد اسم بل كان انعكاساً لروح بركة التي حولت زاوية بسيطة في منزلها إلى حلم حي.
في الزاوية، كانت ماكينة الحبكة التي اشترتها بآخر ما ادخرته. حيث كانت تتمنى شراء ماكينة “الآرت”، التي كانت تراها في “كاتالوج” قديم تحتفظ به في درج صغير بجانب الماكينات، لكنها اكتفت بالأدوات التي امتلكتها.
تخرجت بركة من تخصص تصميم الأزياء، لكنها لم تجد عملاً في ظل البطالة المرتفعة في غزة، ولذلك لجأت إلى المشاريع الصغيرة لتحقق دخلًا يُعين أسرتها، فكان أول مشاريعها من خلال برنامج دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، حيث تعلمت على قماش ملابس الصلاة وبدأت بالعمل على ماكينة خياطة بسيطة. وهنا تطور حلمها وبدأت تخطو أولى خطواتها نحو تحقيقه.
تقول بركة بكل ألم :” كان مشروعي مصدر الدخل الوحيد للعائلة، إذ إن زوجي خريج تمريض ولم يتمكن من العثور على عمل. وتحملت ضغط العمل لدرجة أنني لم أشارك أهلي في الأعياد أحياناً بسبب انشغالي، لكنني كنت سعيدة لأنني أرى مشروعي يكبر ويزدهر بين يدي. وعَلّمت زوجي الخياطة حتى يكون عونًا لي.”
شاركت بركة في مشروع من جمعية عائشة لتعلم الغُرز والتقنيات الجديدة، وأصرت على استلامه رغم الظروف الصعبة بولادة طفلتها قبل 20 يومًا. وشكّلَ اختيارها من بين 150 سيدة للعمل على مشروع خياطة لملابس الأيتام والزي المدرسي في معهد الأمل لحظة فارقة في حياتها.
واستذكرت بركة ابتسامتها وهي ترى الأطفال يرتدون ملابس صممتها ويفخرون بها أثناء سفرهم إلى تركيا وشاهدوا عملها وقرروا الاعتماد عليه، ورغم هذا النجاح إلا أن هذا المشروع كان يستهلك وقتها وجهدها، ما جعلها تعود إلى حلمها الخاص لتوسيع مشروع “آمال”.
كان حلم بركة بسيطًا فكانت تحلم بشراء قطعة أرض صغيرة، وبناء غرفتين تعيش فيهما مع أسرتها، وتحويل باقي الأرض لمصنع صغير. لكنها تعلم أن هذا الحلم يتطلب مالًا ومجهودًا أكبر، فبدأت تدخر من أرباحها شيئًا فشيئا، لتشتري ماكينة جديدة أو تطور القديمة. فتقول ” كنت أحلم بماكينة الآرت، فهي تعمل على خطين وتضيف لمسات جمالية خاصة على الملابس. كنت أرى المستقبل واضحًا، حتى وإن كان بعيد المنال”.
في السابع من أكتوبر 2023، ومع بدء الحرب على غزة سقط الحلم فجأة وتغير كل شي، ففي الصباح الباكر والحي يغرق في صمت ثقيل دوى انفجار شق الأجواء واشتد القصف في المنطقة التي تعيش بها، واقتحم الجيش الإسرائيلي منطقتها، فاضطرت بركة للنزوح مع أسرتها إلى منطقة التفاح.
عادت بركة بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي لتفقد بيتها، فكان المشهد كان مأساوياً؛ فلم تعد الجدران قائمة، وتطايرا النوافذ، وباتت ماكينات الخياطة التي جمعت ثمنها بصعوبة مجرد حديد مشوه وسط الركام. فيما الأقمشة التي كانت تزين الورشة بالألوان الزاهية أصبحت مغطاة بالغبار، ومخلوطة بالحجارة وشظايا الزجاج المكسور.
وبصوت مكسور وصفت بركة صدمتها عند مشاهدة المنزل قائلة : “دخلت في حالة من الصدمة، كنت أمسك قطع الماكينات المدمرة بيدي وأبكي. كل شيء ضاع شقاء العمر، والأحلام التي بنيتها حجرًا فوق حجر”.
ووسط هذا اليأس قررت بركة ألا تستسلم، فدفعتها الحاجة والأهل للعودة إلى العمل، فعادت إلى بيتها المدمر تحمل أملًا صغيراً في العثور على أي شيء يمكن استخدامه، فقضت ساعات في إزالة الحجارة بأيديها تبحث عن ماكينة، وبينما كانت تبحث أصابها قصف قريب، لتسقط على الأرض متألمة من إصابة في ظهرها.
وبعد جهد كبير، تمكنت من إخراج ماكينة خياطة قديمة، مكسوة بالغبار ومليئة بالخدوش، وكانت بالكاد تعمل لكن بالنسبة لبركة كانت كنزًا أعاد إليها بعض الأمل. فذهبت بها إلى مصلح أعاد تشغيلها بصعوبة.
وفي الصف الدراسي الضيق الذي بات منزلهم والذي بالكاد يتسع لعائلتها الكبيرة، بجدرانه المطلية باللون الرمادي الباهت الذي حمل آثار الزمن، وبالأغطية المهترئة والمخدات التي جلبوها من تحت الأنقاض. وبين ضجيج الأطفال وغياب الخصوصية بدأت بركة من جديد، بتحويل جزء من هذا الصف إلى ورشة عمل جديدة. حيث حصلت بصعوبة فائقة على لوح طاقة شمسية لتشغيلها بسبب انقطاع التيار الكهربائي إثر قصف الاحتلال، حيث قامت بوضع ماكينة الخياطة على طاولة خشبية متهالكة، وعلى باب الصف علّقت لافتة بسيطة كتبت عليها اسمها بخط يدوي.
كانت الأقمشة التي جمعتها بركة مُمَزقة أو ملوثة لكنها عملت بجد على تنظيفها وإعادة تدويرها. فبدأت بإصلاح ملابس الناس المُمَزقة، وأعادت الحياة لقطع ملابس اعتقد الجميع أنها لم تعد صالحة، ورغم ضيق المكان إلا أن ماكينة خياطة بركة كانت تعمل بلا توقف.
بركة أفادت بابتسامة فخر :”كنت أعمل بلا كلل، فالناس بحاجة إلى ملابس، وليس لديهم مال لشراء الجديد. فشعرت أنني أخدم مجتمعي وأُعيل أسرتي في الوقت نفسه”.
لكن الحرب لم تمنحها فرصة للاستقرار، عندما اجتاح الجيش الاسرائيلي حي التفاح، اضطُرت مجددًا للنزوح مرة أخرى، ولم تستطع أن تجلب معها سوى ملابس قليلة وطعام يسد الاحتياجات، تاركة خلفها ما بدأته مرة أخرى. وعندما عادت لتفقد أغراضها مجددًا، وجدت الماكينة ولوح الطاقة قد تحولا لقطع معدنية عديمة الفائدة.
وقفت مرة أخرى والدموع تنهمر على وجهها. قائلة “كل شيء ضاع” ولم تستطع أن تتحمل رؤية حلمها وهو يُدمر مِرارًا، و رغم البكاء والخذلان إلا أنها ومُجددًا رفضت الاستسلام ولم تتخل عن إرادتها، فحصلت على ماكينة مُستعملة وحولتها من كهربائية إلى يدوية، لتواصل العمل رغم انقطاع الكهرباء.
بركة اختتمت ختمت حديثها بكل أمل قائلة: “روح الخياطة تسري في دمي، هي شغفي ووسيلتي للعطاء والبقاء”.
تركتُ بركة تعد ماكينتها الجديدة للعمل. فهي تدرك أن الحرب جعلتها تبدء من الصفر مرات ومرات، لكن صلابتها وقُدرتها على البدء من الجديد أبهرتني.