عبير مراد
عادت بذاكرتها إلى عام ويزيد من الفقد، وهي تستذكر اللحظات المرعبة التي عاشتها، بعد القصف الجنوني الذي طال مستشفى المعمداني بمدينة غزة، حيث فقدت أهلها شهداء وبقيت لوحدها تصارع الحياة مع طفل صغير نجا بأعجوبة من تلك المجزرة.
تقضم ملك جرادة، أظافرها وتهز قدمها بشكل مستمر في محاولة منها للسيطرة على شعور الخوف والتوتر الذي ينتابها كلما تذكرت حادثة نجاتها مع أخيها مهدي، لكنها تفشل، فتُغالبها دموعها التي بللت وجهها شوقًا لأهلها.
تقول ملك بعيون دامعة، إن عائلتها اتخذت قرار النزوح من حي الزيتون بمدينة غزة، نحو مستشفى المعمداني في محاولة منهم للبحث عن الأمان بسبب كثافة الغارات الجوية في ذلك الوقت، مشيرة إلى أنهم اختاروا المستشفى ظنًا منهم أنها ستحميهم من القصف الإسرائيلي (المجنون).
وأضافت جرادة، في يوم ال17 من أكتوبر من العام 2023 قصفت الطائرات الحربية المستشفى الذي لجأنا له بعدة صواريخ، مستذكرة تلك اللحظات بالقول، ” نجوت من الموت بعدما أرسلتني والدتي لشحن جوالها، سمعتُ صوت انفجارات ضخمة في الساحة التي كان يتواجد بها أهلي، وأدركت أن شرًا كبيرًا لحق بهم “.
( كانت الدنيا تشتي دم، مشيت على الأشلاء، كنت مرعوبة كتير، وصرت أجري بين الشهداء أدور على أهلي )، تتذكر ملك بعيونها الحزينة هذه اللحظات المريرة، فتقول إن أخيها مهدي وجدوه بأحضان والدتها وكانت أشلاءها تغطي جسده الصغير، كما أصيب بجروح وحروق عانى منها لفترة طويلة بعد المجزرة.
وتتابع حديثها وهي تخفي الدمعات التي علقت في عينيها، ” دُفن أبي وأمي، وأخي، ثم أخي الكبير الذي استشهد في خانيونس، ونجوت لوحدي مع أخي مهدي الذي بلغ 5 سنوات من عمره حديثًا، والذي بات له حكاية طويلة معي من المعاناة في محاولة لتعويضه عن الفقدان الذي يشعر به “.
جرادة تؤكد أنها حاولت تهدئة مهدي، بعدما شعر بالرعب جراء قصفٍ قريب هز المكان، موضحة أنها باتت الأم والأب والأخت له، مشيرة إلى أنهم ساروا في طريق الموت عبر شارع الرشيد، ووسط القصف المستمر في غزة، حتى وصلوا إلى مدينة رفح في الجنوب ثم انتقلوا إلى مواصي خانيونس.
وأوضحت أنها نجت من الموت المحقق مع شقيقها ثلاث مرات، مشيرة إلى أن أخيها يعاني اضطرابات كثيرة جدًا، فهو لا يلعب مطلقًا مع الأطفال، ويصرخ بشكل مستمر إذا استمع لصوت القصف أو الطائرات الحربية.
عاد مهدي للصراخ، ثم هرول لاحتضان ملك، التي بكت بشكل هستيري بسبب سوء حالته، بعد كل تحليق منخفض للطائرات الحربية، مشددة على أن تصرفات أخيها تحولت للعدوانية بشكل كبير، حيث أصبح انطوائي جدًا، ويتبول بشكل لا إرادي ويصرخ كل ليلة من الخوف.
وأكدت ملك، التي بدت ملامح وجهها مشدودة وحائرة على أنها لا تستطيع التعامل مع تصرفات مهدي، وتشعر بالعجز كل ليلة، وإلى جانب ذلك أفادت بأن أصعب ما تمر به في يومها هو الانتظار أمام طابور طويل للحصول على الماء وحمله من مسافة بعيدة نحو الخيمة التي تتشاركها مع عمها.
وعبرت جرادة عن وجعها بالقول أنها أصبحت إمرأة كبيرة في سن صغير، مفيدة بأنها تود إكمال دراستها وعلاج شقيقها مهدي من الناحية النفسية، وأن تنتهي معاناتها، مشيرة إلى أنها وفي كل ليلة تعيش مشاعر مختلفة من الشوق لوالديها اللذين كانا سندًا لها.
وتصف جرادة وهي تتحسس ملابسها المهترئة، وتنظر إلى حذائها المتسخ، وتفرك يديها لتحصل على بعض الدفء، خيمتهم البالية بأنها (كالقبر) لا يوجد بها سوى الهم والتعب. مبينة أنها تعيش في خيمة باردة جدًا، لا تحميهم من لسعات الشتاء أو صواريخ الاحتلال، كما أنه ليس لديهم أغطية كافية أو ملابس دافئة”، منوهة إلى أن الخيمة تفتقر لكل مقومات الحياة الطبيعية.
وحول التحديات التي تواجهها ملك في تربية مهدي والتعامل معه تقول، قالت بأنه يخاف بشكل مستمر، حيث لا يمكن لأحد أن يتخيل كمية خوفه، كما أنه يستمر بطلب رؤية والدتتا باستمرار، ويصرخ في الليل بأنه يريد احتضانها، مفيدة بأنها تشعر بالعجز ولا تعلم ما الذي سفعله معه، حتى تجد نفسها تبكي معه كل ليلة.
واستذكرت جرادة حادثة صعبة مر بها مهدي فتقول، أنه قبل عدة أيام احتفلوا بعيد ميلاده، وبمجرد إشعالهم للصاروخ بدأ يصرخ ويجري ويبكي بشكل هستريري، فلم تستطع التعامل معه، ولم تجد حلًا سوا مطالبة الأطفال مغادرة خيمة الاحتفال، وبقوا وحدهم يبكون دون وجود أحد معهم.
تحلم ملك بإكمال دراستها، وإيجاد علاج نفسي لمهدي بشكل كامل، تقول؛ ” لدي أحلام كبيرة، أولها أن أعود لمنزلي في مدينة غزة، وأزور قبر أهلي، وأن أُكمل تعليمي وأُلحِق أخي بالمراكز الاجتماعية ليتجاوز معاناة الفقد”.
الأخصائية النفسية نهى الشنطي أكدت أن الأطفال الذين نجوا لوحدهم بدون والديهم يواجهون تحديات نفسية عميقة أبرزها الشعور بالحزن والفقدان، والشعور بفراغ عاطفي كبير إضافة إلى الخوف وعدم الأمان، خاصة مع غياب مقدمي الرعاية لهم.
وأضافت أن الأطفال في هذه الحالة يتحملون المسؤولية بشكل مبكر، كما أن تأثير فقدان الوالدين على الفتيات في عمر صغير مع مسؤولية رعاية طفل آخر يكون أكثر تعقيدًا، بحيث ينجم عنه مشاكل كالقلق والتوتر، وتأخر النضج العاطفي، إضافة إلى مشاكل في العلاقات الاجتماعية.
وأفادت جرادة إلى أن سلوكيات الطفل مثل الصراخ والعدوانية يمكن أن تكون طبيعية في بعض الحالات، لكنها قد تشير أيضًا إلى تحديات أو ضغوط نفسية يمر بها الطفل، مؤكدة على أنه يجب فهم هذا السلوك بشكل أفضل وتجاوزه، مع التشديد على متابعة الحالة مع الأخصائي النفسي لمتابعة وضعه ووضع خطة علاجية له لتجاوز أي مخاطر مستقبلية.
ولفتت إلى أن “التبول اللاإرادي، والصراخ، وقضم الأظافر” هي سلوكيات شائعة يمكن أن تظهر لدى الأطفال الذين تعرضوا لضغوط نفسية أو صدمات نفسية، مثل تلك التي قد يمر بها الأطفال في غزة نتيجة الأحداث القاسية مثل الحروب أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. هذه السلوكيات تعتبر في الغالب استجابات نفسية طبيعية للتوتر والقلق والخوف.
غادرتُ خيمة ملك ومهدي، وفي عقلي سؤال واحد، كيف يمكن لطفلين في عمر صغير تجاوز ما مرّا به خلال حرب الإبادة بدون ندوب نفسية واجتماعية للأبد ؟