يُشكّل السرد أداة مركزية في بناء الوعي السياسي والتاريخي حول أي قضية، خاصة في سياقات الاستعمار والمقاومة. في الحالة الفلسطينية، ظلّت السيطرة على الرواية جزءًا من أدوات الاحتلال، حيث يواجه الفلسطينيون صعوبات في إيصال صوتهم دون تدخل أو إعادة صياغة من قوى مهيمنة. فيلم “لا أرض أخرى”، رغم توثيقه لمأساة الفلسطينيين في مسافر يطا، يُثير تساؤلات جوهرية حول من يملك حق سرد القصة، وما إذا كانت هذه السردية تمثل الفلسطينيين أم تُعيد إنتاج موقعهم كموضوع للرواية، لا كفاعلين فيها. وتفكيك العلاقة بين موقع الراوي وسلطة السرد..
عند تحليل السياقات الثقافية والسياسية التي تحكم توزيع وتمثيل الأفلام الفلسطينية، يظهر بوضوح أن الرواية الفلسطينية لا يُسمح لها بالوصول إلى المنصات العالمية إلا عبر قنوات معينة، غالبًا ما تتضمن وجود عناصر إسرائيلية، سواء على مستوى الإنتاج أو الإخراج أو حتى السرد نفسه. يعكس هذا الواقع استمرارًا لهيمنة استعمارية تمتد من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على الخطاب.
عن فيلم “لا أرض أخرى“
فيلم “لا أرض أخرى” هو فيلم وثائقي فلسطيني-إسرائيلي مشترك، يسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين في منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك هدم المنازل والتهجير القسري. شارك في إخراج الفيلم أربعة مخرجين، فلسطينيَيْن وإسرائيليَيْن
“باسل عدرا”: ناشط فلسطيني من مسافر يطا، وثّق منذ طفولته الانتهاكات الإسرائيلية في منطقته. و”حمدان بلال”: مخرج فلسطيني شارك في توثيق معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية. “يوفال أفراهام”: صحافي إسرائيلي يساري، عمل على توثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. “راحيل تسور”: مخرجة إسرائيلية داعمة للقضية الفلسطينية، شاركت في توثيق معاناة الفلسطينيين.
عمل المخرجون الأربعة في دائرة مشتركة بإنتاج نرويجي، ودعمٍ من مهرجان “صندانس” خلال مراحل إنتاجه، وأمضى المخرجان باسل عدرا ويوفال أفراهام خمس سنوات في إنتاج الفيلم، حيث وثّقا عمليات هدم المنازل والاعتداءات التي تعرض لها سكان مسافر يطا من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. عُرض الفيلم لأول مرة في قسم البانوراما في الدورة 74 من مهرجان برلين السينمائي الدولي في 12 فبراير 2024، حيث حاز على جائزتين. وفي 2 مارس 2025، فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل.
السرد الاستعماري وشرعيّة الراوي..
تقوم الدراسات ما بعد الاستعمارية، مثل أعمال إدوارد سعيد (1978) وغياتري سبيفاك (1988)، على تحليل كيفية سيطرة القوى المهيمنة على إنتاج المعرفة والسرديات. تشير سبيفاك إلى مفهوم “التحدث بالنيابة عن الآخر” (?Can the Subaltern speak)، حيث يتم تهميش الصوت المحلي لصالح خطاب يُعتبر أكثر شرعية في الفضاءات المهيمنة. في السياق الفلسطيني، يُطرح السؤال: لماذا لا يمكن للفلسطيني أن يروي قضيته دون وسيط إسرائيلي، حتى لو كان هذا الوسيط متعاطفًا؟ تُظهر هذه الإشكالية أن الخطاب الاستعماري لا يتوقف عند السيطرة المادية، بل يمتد إلى البنية الثقافية والمعرفية، حيث يتم إعادة إنتاج أشكال من “التمثيل المقبول” للقضايا المستعمَرة، بما يتناسب مع القيم والمعايير التي يفرضها النظام العالمي المهيمن. هذا التمثيل غالبًا ما يكون مشروطًا، بحيث يتيح للضحايا التعبير عن معاناتهم، ولكن ضمن إطار يضمن عدم تهديد البنية الاستعمارية ذاتها.


الراوي الإسرائيلي كشرط للمقبولية
يعتمد الفيلم على تحالف بين المخرج الفلسطيني “باسل عدرا” والإسرائيلي “يوفال أبراهام”، لكن الأخير هو الذي يُعتبر “الوسيط الشرعي” الذي منح الفيلم وصوله إلى منصات دولية مرموقة، ومنها الأوسكار، يصير هنا الراوي الإسرائيلي شرط للمقبوليّة. وهذه الديناميكية ليست جديدة؛ إذ تكررها المؤسسات الغربية التي لا تتقبل الرواية الفلسطينية إلا عندما تأتي عبر صوت إسرائيلي يُعيد إنتاجها ضمن خطاب ليبرالي لا يُزعج البنية الاستعمارية.
يُعيد الفيلم إنتاج الصورة التقليدية للفلسطيني كضحية تحتاج إلى “مترجم”، وهو دور يقوم به أبراهام، الذي يستخدم موقعه كإسرائيلي لتقديم الرواية الفلسطينية بطريقة تُناسب الذائقة الغربية، دون تجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها النظام السياسي والثقافي الغربي. هذا ما يفسر لماذا يمكن لفيلم إسرائيلي-فلسطيني أن يصل إلى الأوسكار، بينما تكافح أفلام فلسطينية صرفة للحصول على الحد الأدنى من الاعتراف.
وفي خطاب استلام الجائزة، ذكر أبراهام أحداث 7 أكتوبر، متجاهلًا أنّ القضية الفلسطينية لم تبدأ في هذا التاريخ، بل تمتد جذورها إلى النكبة والاستعمار الاستيطاني المستمر. هذه المقاربة تتماشى مع الخطاب الغربي الذي يساوي بين الاحتلال ومقاومته، ويُعيد صياغة السرد بطريقة تجعل الفلسطيني مجرد ضحية لا فاعلًا سياسيًا يواجه منظومة استعمارية. هذا الاختزال ليس مجرد موقف فردي، بل يعكس سياسة ثقافية أوسع، حيث يتم تقديم الفلسطينيين كمتألمين، لكن ليس كأصحاب قضية سياسية متكاملة. في مثل هذه الروايات، يتم التركيز على المآسي الفردية بدلًا من تحليل السياق البنيوي للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.


لا يمكن إنكار جودة الفيلم من حيث السرد البصري والتوثيق، لكن وصوله إلى الأوسكار لم يكن محض اعتراف بقيمته الفنية، بل نتيجة لبنيته الإنتاجية التي تضم مخرجًا إسرائيليًا، مما جعله أكثر توافقًا مع معايير القبول في الأوساط السينمائية الغربية. في المقابل، تُهمَّش عشرات الأفلام الفلسطينية التي تروي القصة ذاتها، لكنها ترفض أي وصاية إسرائيلية على خطابها. تاريخيًا، لم تحصل الأفلام الفلسطينية على الاعتراف الدولي إلا عندما تكون جزءًا من إنتاج مشترك مع جهات إسرائيلية أو عندما تتبنى خطابًا غير تصادمي مع النظام العالمي. في المقابل، الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية من منظور جذري، وترفض تقديم الاحتلال كقضية خلاف سياسي فقط، غالبًا ما تُستبعد من منصات الجوائز الكبرى.
علاوةً على ما سبق، يندرج فيلم “لا أرض أخرى” ضمن نمط أوسع من الإنتاجات الثقافية التي تُعيد إنتاج التبعية، حيث لا يُسمح للفلسطيني بأن يكون السارد الأساسي لتاريخه. هذا النمط يعكس استمرارًا للهيمنة الاستعمارية في المجال الثقافي، حيث يُصاغ خطاب التضامن بطريقة لا تهدد البنية السياسية التي تُنتجه. هذه الديناميكية تُعيد إنتاج الاستعمار بطرق أكثر تعقيدًا، حيث يبدو أن الفلسطيني حاضرٌ في السرد، لكنه لا يملك سلطته الكاملة عليه. بدلًا من ذلك، يتم تقديمه في إطار سردي يحدّ من قدرته على توجيه المعنى، ويضعه ضمن إطار يمكن أن يكون مقبولًا على المستوى الدولي، لكنه لا يعكس حقيقة نضاله.

من يملك الرواية؟!
على الرغم من غنى السينما الفلسطينية بالأفلام التي توثق النكبة والاحتلال والقمع المستمر، إلا أن الفلسطينيين لم يفوزوا بجائزة الأوسكار عن أي من أفلامهم، وهو ما يعكس بنية القوة غير المتكافئة في صناعة السينما العالمية. تُهيمن المؤسسات الغربية على توزيع الجوائز الكبرى، حيث تكرّس معايير التفوق الأبيض والهيمنة الاستعمارية عبر آليات الانتقاء والتفضيل، مما يجعل الاعتراف بالأعمال الفلسطينية مرهونًا غالبًا بوساطة غربية أو برؤية تتماشى مع السرديات المقبولة في الدوائر السياسية والثقافية السائدة.
عندما يتم منح الفلسطينيين مساحة في هذه المنصات، يكون ذلك غالبًا من خلال شراكات إنتاجية مع جهات إسرائيلية أو غربية، مما يفرض شروطًا غير مرئية على طريقة عرض الرواية الفلسطينية، بحيث تصبح مقبولة ضمن الأطر الاستعمارية لا مناهضة لها.
وهنا يطرح فوز الفيلم بالأوسكار تساؤلات عميقة حول كيفية تمثيل القضية الفلسطينية في المحافل الدولية. بدلاً من الاحتفاء الأعمى بهذا الفوز، من الضروري تحليل الأطر التي تتحكم في إنتاج الرواية الفلسطينية، وكيف تُعيد فرض شروط تمنع الفلسطيني من امتلاك صوته بالكامل. يكشف هذا النموذج عن ضرورة بناء إنتاج ثقافي مستقل لا يخضع لشروط القبول التي تُعيد تهميش الرواية الأصلية.