loading

ترامب واللعبة السياسية: هل يقلب المعادلة في فلسطين أم يعيد إنتاج الفشل؟

د.ياسمين تمام

في السياسة، هناك من يناور، وهناك من يطلق الوعود بيد، ثم يهدمها بالأخرى. ودونالد ترامب، العائد بقوة إلى المشهد، لم يكتفِ بالمناورة، بل قلب الطاولة بالكامل، محاولًا رسم شرق أوسط جديد وفق مقاييس واشنطن وحدها. بدأ حملته الانتخابية متقمصًا دور “صانع السلام”، مؤكدًا أن “لا أحد سيطرد الفلسطينيين من أراضيهم”، لكن أليس هو ذاته من صمت أمام مشاريع تهجيرهم، وطرح أفكارًا مثل “تأجير غزة” وإعادة إعمارها وفق ترتيبات تخدم إسرائيل؟ كيف يمكن لمن صاغ “صفقة القرن” أن يدّعي الحرص على حقوق الفلسطينيين، بينما كانت خططه دائمًا تدور حول إعادة تشكيل قضيتهم بما يتناسب مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية؟

من صفقة التبادل التي لم تكن لتحدث دون ضغطه، إلى تصريحاته التي تتأرجح بين التهدئة والتصعيد، بدا ترامب وكأنه يمارس لعبته المفضلة: التناقض، وإعادة صياغة الحقائق وفق حساباته الانتخابية. فهل نحن أمام نسخة جديدة من ترامب تحاول مغازلة الجميع، أم أنها مجرد جولة أخرى من التلاعب بمصير المنطقة؟

ترامب والقضية الفلسطينية: مناورة أم إعادة صياغة للصراع؟

منذ صعوده الأول إلى السلطة، كان ترامب واضحًا في دعمه المطلق لإسرائيل، متبنيًا سياسات غير مسبوقة مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها. اليوم، وهو يطمح للعودة، يعيد استخدام الورقة الفلسطينية لكن بأسلوب أكثر براغماتية، مقدمًا نفسه كوسيط قادر على “إنهاء الصراع”، لكن بشروط أمريكية-إسرائيلية بحتة.

مع تصاعد الحرب على غزة، بدأ ترامب بطرح أفكار مثيرة للجدل حول إعادة إعمار القطاع بترتيبات تصب في صالح إسرائيل، دون أي اعتبار للحقوق الفلسطينية. من التلميح بإقامة مشاريع استثمارية خاضعة للرقابة الإسرائيلية، إلى اقتراحات غير رسمية حول “تأجير غزة” أو حتى “توطين الفلسطينيين في دول أخرى”، يبدو أن رؤيته للقضية لا تختلف كثيرًا عن سياسات الضغط والترحيل التي تبنتها إسرائيل عبر العقود الماضية.

التناقض في تصريحات ترامب: مراوغة سياسية أم إعادة تموضع؟

في أحدث تصريحاته، قال ترامب إنه “لا أحد سيطرد الفلسطينيين من أراضيهم”، مؤكدًا أن واشنطن تعمل مع إسرائيل على إيجاد حل. هذا التصريح يأتي في تناقض واضح مع مواقفه السابقة التي دعمت سياسات الاستيطان، وأوقفت المساعدات للأونروا، وساهمت في ترسيخ واقع سياسي يصب في مصلحة إسرائيل فقط.

لكن هل يمثل هذا التصريح تحولًا حقيقيًا في موقفه، أم أنه مجرد مناورة سياسية؟ يبدو أن ترامب يحاول تهدئة الانتقادات الدولية التي تتصاعد بسبب الحرب على غزة، في محاولة لكسب الوقت وإعادة تموضعه كوسيط مقبول، رغم أن سياساته تثبت العكس.

هذا النوع من التصريحات المتناقضة ليس جديدًا في خطابه السياسي، حيث اعتاد تقديم مواقف مربكة تخدم مصالحه الانتخابية أكثر مما تقدم حلولًا حقيقية للصراع. فهل سينجح في إعادة تسويق نفسه كوسيط سلام، أم أن سياساته ستظل مكشوفة أمام الحقائق على الأرض؟

إعادة الإعمار: فخ سياسي بغطاء إنساني

بينما يُطرح ملف إعادة إعمار غزة كضرورة إنسانية، فإن خلف الكواليس تدور حسابات سياسية معقدة. إدارة ترامب المحتملة قد تستخدم هذا الملف كأداة للضغط على الفصائل الفلسطينية، وربط أي مساعدات بإعادة تشكيل المشهد السياسي في القطاع، بما يتناسب مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

من جهة أخرى، يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كشريك رئيسي في أي تسوية مستقبلية، مستخدمًا إعادة الإعمار كوسيلة لإعادة إنتاج “صفقة القرن”، لكن بصيغة أكثر تعقيدًا تتضمن مشاركة عربية في تمويل مشاريع إعادة البناء، مقابل تقديم تنازلات سياسية.

الضغط على الدول العربية: إعادة تشكيل التحالفات

لا تقتصر سياسة ترامب على فلسطين وحدها، بل تمتد إلى إعادة رسم التحالفات في المنطقة. فمن خلال تكثيف الضغط على الدول العربية، يسعى لإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات لصالح إسرائيل، سواء عبر اتفاقيات تطبيع جديدة أو من خلال دفعها لتمويل مشاريع إعادة الإعمار بشروط أمريكية.

التجربة السابقة مع “اتفاقيات أبراهام” توضح كيف استخدم ترامب النفوذ الاقتصادي والسياسي لانتزاع تنازلات عربية لصالح إسرائيل، ويبدو أنه مستعد لتكرار الأمر ذاته ولكن هذه المرة عبر بوابة غزة.

ختامًا: ترامب بين التناقض والمناورة… انقلاب في المواقف أم إعادة إنتاج للخداع؟

ترامب ليس مجرد سياسي متقلب، بل لاعب محترف في إعادة رسم الخرائط السياسية وفق مصالحه. يعلن بصوت مرتفع أن “لا أحد سيُطرد من غزة”، لكنه في الوقت ذاته يلمّح إلى مشاريع تهجير وتأجير، ويطرح إعادة إعمار تُدار بشروط إسرائيلية صارمة. يروّج لنفسه كصانع سلام، لكنه لم يُنتج سوى صفقات تخدم الاحتلال وتُفرغ القضية الفلسطينية من جوهرها.

هذه ليست مجرد تناقضات، بل استراتيجية مدروسة: وعودٌ فضفاضة، تصريحاتٌ متفجرة، ثم تراجع محسوب في التوقيت المناسب. إنه نفس الأسلوب الذي استخدمه في “صفقة القرن”، والآن يعيد تدويره بواجهة جديدة، متلاعبًا بمصير الملايين كما لو كان يُدير صفقة عقارية في كازينوهات نيويورك.

فهل سينجح هذه المرة في فرض منطقه السياسي، أم أن المنطقة التي اشتعلت بنيران المقاومة والتغييرات الجيوسياسية الكبرى لن تكون ساحة سهلة لمناوراته؟ في نهاية المطاف، القضية الفلسطينية لن تُحسم في أروقة البيت الأبيض، بل في صمود أصحابها، وفي قدرة المنطقة على مواجهة الابتزاز السياسي الذي يجيد ترامب فنونه. فهل ستكون جولته الثانية انقلابًا على سياساته السابقة، أم مجرد نسخة أكثر تهورًا من فشل قديم؟

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة