جنين أبو جراد
كان صباحُ وردة يبدأ دائمًا برائحةٍ مميزة؛ ليست مجرد عبير البنّ المطحون، بل رائحة الأمان. روتينٌ بسيط نسجته الأم الفلسطينية وردة (40 عامًا) حول صغيرتها وزوجها في منزلهم المتواضع بقطاع غزة، حيث كانت تُتقن فنَّ صناعة الصباح الهادئ.
كل فنجان قهوة، وكل ترتيبٍ بسيطٍ للبيت، كان إعلانًا صغيرًا بأن الحياة ما زالت ممكنة. لكن في لحظةٍ خاطفة، تحوّل صباح وردة من دفء القهوة إلى رماد الحرب
كانت تُرتب الوسائد، بينما ابنتها تلهو على الأرض، وعينا زوجها تراقبان المشهد بابتسامةٍ عابرة. فجأة، سُمع صوت انفجارٍ مروّع، كأن السماء انشقّت.
تقول وردة: “الدنيا اسودّت… الدخان غلّف كل شي، ما عدت أميّز وين الباب ووين الحيط. حسّيت بنار بعيوني، وجع فظيع، وما عدت أشوف.” صرخت بأعلى صوتها: “يا الله! بنتي وينك؟ جوزي وينك؟ ساعدوني!”
لكن لم يجبها إلا دوي الانفجارات وصراخ الجيران. الهواء صار خانقًا، والصوت مكتومًا، ووردة تزحف على الأرض بين الركام. صوت طفلتها كان يخفت ويضيع في دخانٍ كثيف، كأنّه ابتلع كل النداءات.
“كنت أحاول أوقف، أمشي، بس وقعت. الدنيا ظلام… حسّيت في شي سخن بعيوني، وإيديّ تتحسّس الركام، وجسمي بيرتجف.”
مرّت دقائق كأنها سنوات، إلى أن شعرت بيدٍ تهزّها: “إنتِ عايشة؟ إحنا هون، اصبري!”. كان هذا صوت ابن عمها، الذي أتى راكضًا بعد أن سمع استغاثتها بين الركام. حملها وهي لا تزال تنادي: “بنتي! بنتي!”
اقترب صوتُ الإسعاف أخيرًا، لكن وردة كانت تعرف أنها فقدت شيئًا لن يعود. فتقول “كنت واعية، بس مش شايفة… مش مصدقة، مش قادرة أستوعب، بس كنت حاسة… في شي كبير انكسر ..فيّ.”
تلك كانت بداية العتمة التي لا تزال تسكنها حتى اليوم. تتذكر وردة تفاصيل ذلك اليوم كأنه محفورٌ في جسدها قبل ذاكرتها.
كان يوم السبت، 22 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والساعة تقترب من التاسعة صباحًا. والجميع يتابع ما يجري من قصف وتدمير في مختلف انحاء غزة، ويحاول بجهد الابتعاد عن مرمى الصواريخ .
تتابع “كنت بالمطبخ، بجهز القهوة، وبنتي قاعدة بغرفة النوم بتلعب بألعابها… جوزي كان بيحاول يصلّح باب الدار الخارجي.”
“صوتُ الصاروخ الأول مرّ كصفعة، الجدران اهتزّت، الزجاج تهشم وتناثر في أرجاء البيت، وسقف المطبخ انهار وتفتّت.
صَرَخَتُ، لاهثة أبحث عن مكان ابنتي، لكن قبل أن أصلها، نزل الصاروخ الثاني.”
تضيف “صرت أسمع صوت صفير، زي كأن الدنيا صارت تحت رجلي مي…وفوق راسي دخان، وقدام عيوني رماد.. حسّيت وجهي انحرق، وعينيّ ما عادوا يشوفوا شي.”
تحاول وردة أن تشرح، لكن الكلمات تخونها.
“كنت أنادي: جوزي! بنتي! في حدا؟! بس الصوت كان مكتوم، مفيش غير صوت النار.” كانت ابنتها تحت السرير، وزوجها مرميًّا قرب الباب. لم تستطع رؤيتهما، لكنها عرفت أماكنهما من أصوات الهمس والأنين.
بعد ربع ساعة – أو أكثر – دخل ابن عمها يركض، حملها مُسعفًا ، وجسمها نصفه دم ونصفه الآخر رماد. خرجت وردة من تحت الردم، لكن عينيها ظلّتا هناك.
في المسشفى التفت عينيها بالشاش الأبيض، وفاحت منها رائحة الدخان و الرماد، فتقول “كنت بين وعي وغيبوبة… أول ما سمعت صوت ممرضة، همست: بنتي وين؟ جوزي عايش؟”جاءها الجواب المطمئن: “بخير… جوزِك وبنتك بخير.”لكن لا أحد امتلك الجرأة ليقول لها الحقيقة.
“كل ما أفتح عيني كنت أشوف ظلام… مش لأني نايمة، بس لأني فقدت بصري، ومحدش كان راضي يقول لي” تضيف وردة
كانت الممرضات يمررن بصمت، يبدّلن الشاش، ويغادرن. حتى الأطباء كانوا يهمسون بينهم، كأنها لا تسمع. وبعد يومين، اقترب زوجها، وجهه شاحب، صوته مكسور:
“بنتك مرح بخير… وأنا كمان بخير، بس… إنتِ يمكن ما تقدري تشوفي حد منا لفترة “
حينها أدركت وردة أنها فقدت بصرها ، غمرها حزنٌ عميق وارتباك، كأن العالم كله أُطفئ من حولها.
“أنا اللي كنت أشوف كل شي… اليوم بمشي وأوقع، ومش شايفة لا بنتي ولا أبوها.”
لكنها سرعان ما تماسكت، وقررت ألّا تستسلم لليأس، وأن تبقى قوية من أجل طفلتها وزوجها، رغم الألم الذي يعتصر قلبها.
“ما صدّقت… مدّيت إيدي أدوّر على ملامح الحياة. طلبت أشوفهم، بس كنت عارفة إني ما رح أقدر… جوّاي كان بيوجع أكتر من جرح عيوني، لأني بعرف إني ما رح أشوف وجه بنتي الوحيدة ولا جوزي بعد اليوم.”
بدأت رحلة العلاج، لكنها اصطدمت بجدار الواقع.
“كل يوم كنت أسأل الطبيب: في أمل؟ في عملية؟ وكان الجواب دايمًا: بدنا تحويلة.” التحويلة صارت كلمةً تُعلَّق بين الأمل والعجز.
“قالولي لازم تسافري برّه، العين محتاجة تدخل جراحي دقيق… بس ما في تحويلة، والمعبر مسكّر. لكن التحويلة تلك لم تصل، والانتظار طال.
” يعني مارح أقدر أشوف ضحكة بنتي بعد اليوم” ؟
“صار لي سنتين بستنى… وكل ما بسمع صوت إسعاف، بقول يمكن جابتلي خبر حلو… بس ولا مرة وصلني شي.”
كانت رحلة نزوح وردة من المشفى إلى الخيمة كأنها تسير في دهاليز لا تنتهي من العتمة. لا ترى شيئًا سوى الأصوات والقلق.
أمسكت بيد زوجها بقوة، كانت أصابعها ترتجف، وكأنها تتمسك بالحياة كلها في كفّه. في كل خطوة، كانت تتعثر بالحجارة وركام المنازل والشوارع المدمرة ، تنزل قدمها بخوف فوق الرصيف المكسور، وأحيانًا تجري حين تسمع دوي قصف قريب، فيسحبها زوجها مسرعًا، فتقع على الأرض وتنهض بصمتٍ موجع.
كان الشارع مزدحمًا بالنازحين، بالأطفال، برائحة الغبار والدخان، لكن وردة لم ترَ شيئًا.
كانت تتبع صوته، صوته فقط .
سألته أكثر من مرة: “وين وصلنا؟ في ناس حوالينا؟”
ثم توقفت فجأة وسألته بارتباك: “وين بنتي؟ ماسك إيدها؟ أنا مش سامعة صوتها!”
طمأنها بصوتٍ مرتجف: “معي حبيبتي، ماسك إيدها، إحنا سوا، ما تخافي.”
كانت خطواتها ثقيلة، وقلبها يسبقها إلى الخيمة التي لا تعرف شكلها، لكنها اليوم صارت بيتها. تتحرك وردة في خيمتها كأنها تبصر بعيني قلبها المجروح .
“أول ما بصحى، بمد إيدي” عالشادر”، أمرّ بإيدي عالقماش… بعرف إني وصلت المطبخ لما أسمع صوت خرخشة الأواني وهية بتخبط برجلي .” تتلمّس الأواني، تحفظ أماكنها، تميزها من حرارتها ورائحتها.
“الطنجرة إلها إذنين، الغلاية إلها يد وحدة… المعلقة الكبيرة عيمين تنكة النار ، الزيت قدامي، والملح جنب الطنجرة.”
وردة ما زالت تطهو لطفلتها كأنها ترى. بعين القلب، وبذاكرة اليد، وبصبرٍ تعلّمنا منه كيف يُهزم الظلام بالنور الداخلي.
على شاطئ البحر، حيث نُصبت خيمتهم، تسمع وردة هدير الموج ولا تراه. تسمع صوت الزنانة والقصف من حولها …. وأصوات النازحين والأطفال ….يمسك زوجها بيدها مطمئنًا: “إحنا هون، ما تقلقي.”
ابنتها تلعب على باب الخيمة وتمرغ وجنتيها الغضتين بتراب الأرض. فتبتسم رغم الظلام، وتقول بهدوء: “أنا بشوفكم… بس بطريقتي.”
في خيمتها القريبة من شاطئ البحر، ما زالت وردة تعيش بين صوت الأمواج وذاكرة الضوء، تتلمّس الحياة بأصابعها وتحتضن ابنتها رغم كل العتمة.
لكن وردة ليست وحدها؛ فبحسب مدير مشفى العيون في غزة عبد السلام صباح، تم تسجيل ما يقارب 1200 حالة جديدة فقدت البصر كلياً أو جزئياً في حي النصر ومدينة غزة خلال أسبوعين فقط منذ بداية الحرب.
في حربٍ لم تفرّق بين طفل وشيخ، ولا بين عينٍ وقلب، أصبح فقدان البصر أحد أوجه الكارثة التي طالت المدنيين.
وردة اليوم بقلبها وبصيرتها حملت آلاف المشاهد والقصص عنها وعما حل بغزة خلال شهورالإبادة الطويلة، وسيبقى صوتها شاهدًا حيًا على ثمن الظلم حين إنطفئ النور في عيون الأبرياء.




