محمد عبد الله
في قرية دير أبو مشعل غرب رام الله، يعيش فواز البرغوثي (41 عامًا)، موظف حكومي وأب لخمسة أطفال، حياة تتآكل يومًا بعد يوم، تحت وطأة أزمة مالية خانقة لم تعد فيها الرواتب تكفي حتى لسداد الديون.
“لم أتقاضَ راتبًا كاملًا منذ عام 2021، سوى مرة واحدة فقط”، يقول فواز، وهو يحاول أن يخفي انكسارًا في صوته.
على مدار أربع سنوات، تحولت حياته إلى سباق مرهق ما بين سد الديون، وتدبير نفقات المعيشة، والمواصلات، واحتياجات أطفاله، الذين لا يفهمون شيئًا من معادلة “الأزمة المالية” سوى أن الأب لم يعد يفي بوعوده.
ويعيش موظفو القطاع العام الفلسطيني ظروفًا معيشية صعبة، في ظل استمرار تأخر صرف الرواتب من قبل الحكومة، وعدم انتظامها، نتيجة الحصار المالي المفروض، وامتناع الاحتلال عن تحويل أموال المقاصة كاملة للشهر الثاني على التوالي.
وفي ظل هذه الأزمة، يتخبط الموظف بين احتياجاته الشخصية والتزامات أسرته الاجتماعية، فيجد نفسه عاجزًا عن الإيفاء بها، بل ويغدو مديونًا للمجتمع المحلي، ومصابًا بأزمات نفسية خانقة.
وفي هذا الحوار الخاص مع موقع “بال غراف”، يروي فواز البرغوثي، تفاصيل معاناته، محاولًا الإجابة عن سؤال مركزي واحد: “كيف تُدبّر أمورك؟”
منذ متى لم تتقاضَ راتبًا كاملاً؟
منذ عام 2021 وحتى اليوم، لم تُصرف الرواتب بشكل منتظم، ولم أتقاضَ راتبًا كاملًا سوى مرة واحدة خلال أربع سنوات. وقد تراكمت لي على الحكومة مستحقات تفوق 12 راتبًا.
الفترة الأخيرة كانت الأصعب، مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وتراجع فرص العمل، ما جعل الاستمرار شبه مستحيل.



كيف تُدبّر أمورك في ظل عدم انتظام الراتب؟
في السابق، كنت أعتمد على العمل الإضافي بعد الدوام وفي الإجازات، مثل ورش البناء أو تركيب الأثاث، لكن اليوم بات من الصعب العثور على أي فرصة عمل، حتى لأصحاب المهن أنفسهم.
أُغلقت أبواب العمل في وجهي، وأصبحت الأزمة في تصاعد.
هل ما يُصرف من الراتب يكفي لسد احتياجات أسرتك؟
الرصيد الذي يُصرف لا يغطي شيئًا تقريبًا. أُرهقت بالتنقل بين رام الله وبيرزيت وسلفيت، وكل منطقة تتطلب مصاريف إضافية.
عندما كنت أعمل في رام الله كنت أتدبر أمري عبر أصدقاء أو أقارب، وأدفع لهم المواصلات أسبوعياً أو عند صرف الراتب، لكن في سلفيت أُجبرت على دفع مواصلات يومية مرهقة، دون وجود سيارة تنقلني، ما فاقم معاناتي.
الراتب لا يغطي الحد الأدنى لأسرة من سبعة أفراد. بمجرد استلامه، يذهب لسداد الديون: السوبر ماركت، المواصلات، وغير ذلك. أُمسكه بيدي بالكاد نصف ساعة، ثم أبدأ من جديد بالاستدانة حتى صرف النسبة التالية من الراتب.
هل حُرمت أنت وعائلتك من أمور كانت معتادة؟
نعم، كثير من الأشياء أصبحت خارج الحسابات. أبنائي لا يفهمون معنى “أزمة رواتب”، هم فقط يعرفون حاجتهم، وأنا عاجز عن تلبيتها. هذا يزيد من أزمتي النفسية.
اليوم أصبحنا نعتبر أشياء أساسية — كالطعام واللباس — كماليات. أما الترفيه، كالرحلات أو زيارة مدينة ملاهي، فلم يعد موجودًا أصلًا.


هل اضطررت للاقتراض؟
نعم، اقترضت من هيئة التقاعد، وتُخصم النسبة المُعلنة مباشرة من الراتب.
راتبي أصلًا متدنٍ، ويُصرف مجزّأ، فلا أستطيع أن أُبرمج مصاريفي أو أعيش بثبات. كل شيء مرهون بالتأجيل والاستدانة.
هل أثّر ذلك على مشاركتكم في المناسبات الاجتماعية؟
أكيد. أصبحنا نحاول التواري عن الأنظار، لأن الدعوة تعني التزامًا: نقوط، مواصلات، ملابس.
المفارقة أن الموظف الذي له ديون على الحكومة، يتعامل وكأنه مديون للناس.
قريبًا هناك زفاف لشقيقة زوجتي، وللأسف لا أستطيع أن أقدم لها ما كنت أقدمه سابقًا. حتى أطفالي، لا أستطيع شراء ما يحتاجونه للمناسبة، بل أضطر لمعاينة ما لديهم من أحذية وملابس لأقرر ما يمكن استكماله.
ما هي رسالتك للحكومة؟
للأسف، الحكومة لا تنظر إلى الموظف، ولا تسعى بجدية لإيجاد حلول. نعم، نعلم جميعًا أن هناك أزمة، لكن المطلوب هو قرارات تُترجم إلى أفعال.
مثلًا: سيارتي متوقفة منذ أشهر لعدم قدرتي على ترخيصها. لماذا لا تقوم دائرة السير بخصم المبلغ من مستحقاتي المتراكمة؟ لماذا يُطلب مني الدفع نقدًا بينما يُحتجز راتبي؟
نريد فقط أن نحصل على حقنا المقدس: الراتب. هذا ليس منّة من أحد.
الحكومة أعلنت عن إجراءات لدعم الموظفين.. ما تعليقك؟
هذه قرارات لا تُنفّذ. ذهبت مرتين لمركز شحن الكهرباء ولم يسمحوا لي بالشحن دون الدفع، رغم قرارات الحكومة. قال لي الموظف إن عليه تسديد ما يدفعه للبنك.
هذه الإجراءات شكلية، والواقع شيء مختلف.
الوحيدون الذين تفهموا الوضع هم مجلس قريتنا، حيث أستطيع تأجيل فاتورة المياه بالتفاهم معهم، أما بقية الخدمات فلا يوجد أي تسهيل حقيقي.