سليم اللوزي
في خضم سباق الإبهار الرقمي قبل أربع سنوات، وبينما كانت ألوان “كوكوميلون” الأخاذة تتنافس على جذب انتباه الصغار، اكتشفنا أنا وزوجتي ملاذا مختلفا. كانت مجرد أغان إيقاعية عن أرانب تقفز وقطط صغيرة، لكنها كانت تحمل توقيع صانعة محتوى فريدة. لقد كان محتواها بسيطا، خاليًا من التعقيد، وشعرنا على الفور أنه يقدم لأطفالنا قيمة مميزة تفوق الضوضاء البصرية المعتادة. لم نكن نعلم حينها أن هذه البساطة ستتحول يومًا إلى قوة هائلة في مواجهة أكبر القضايا الإنسانية.
في البداية اعتقدنا أنها مجرد شخصية مبهجة أخرى على شاشات الأطفال. لكن وراء ابتسامتها الدافئة وحروفها الواضحة التي تساعد الملايين على النطق، تقف راتشيل أكورسو – المعروفة عالميا بـ “مس ريتشل” – التي قررت أن لغة التواصل ليست مجرد كلمات، بل هي لغة العدالة والضمير.
لقد حوّلت هذه المعلمة، الحاصلة على ماجستير في تعليم الطفولة المبكرة، منصتها المليونية من فضاء للتعليم اللغوي إلى ساحة للمساءلة الأخلاقية. في زمن يختار فيه المشاهير الصمت خوفًا على عقودهم، اختارت مس ريتشل أن تضع “الضمير كبوصلة”، معلنة استعدادها لـ “المخاطرة بكل شيء” من أجل الدفاع عن “الطفل الكوني”، وخاصة أطفال غزة.
إنها ليست مجرد صانعة محتوى، بل هي نموذج فلسفي لـ “أخلاق الرعاية العالمية”، التي تُثبت أن الشجاعة الحقيقية هي تحويل رأس المال الرقمي إلى صوت للأطفال الذين فقدوا حقهم في الكلام والأمان.
طفلي.. وأطفال العالم أيضًا!
اشتهرت “مس ريتشل” بقناتها على يوتيوب، التي كانت تُعرف في الأصل باسم “Songs for Littles”، حيث تقدم مقاطع فيديو تركز على تطوير اللغة والكلام والمهارات الاجتماعية للأطفال. وكانت تستخدم تقنيات يوصي بها اختصاصيو علاج النطق وخبراء الطفولة المبكرة، مثل التكرار، واللغة الواضحة والمبسطة، وإدخال لغة الإشارة البسيطة.
فكرة هذا الأسلوب التعليمي لم تأتِ من العدم، فمدرّسة الموسيقى اتخذت هذا المنحى في رحلة إنشاء المحتوى لمساعدة ابنها الذي كان يعاني من تأخر في النطق. سرعان ما اكتسبت شعبية وأصبح محتواها جزءًا من تجربة التعلم المبكر للكثير من العائلات حول العالم.
هذه السيدة الأربعينية، ظهرت يوم أمس خلال حفل تكريمها، – بعد أن منحتها مجلة “غلامور” (Glamour) الأميركية لقب “امرأة العام 2025”-، مرتدية فستانا أبيض يحمل رسومات لأطفال فلسطينيين وإشارات رمزية تعبر عن التضامن معهم.
تكريم المجلة لم يأتِ لنجاحها كمعلمة أطفال عبر الإنترنت، بل لالتزامها المستمر والشجاع بالدفاع عن حقوق الأطفال الأكثر حاجة في العالم، وتحديدًا أطفال غزة. ووصفتها المجلة بأنها أصبحت رمزًا للضمير الإنساني، حيث حوّلت منصتها الضخمة إلى أداة للتغيير الاجتماعي والإنساني على نطاق عالمي، رافضةً الصمت أمام معاناة الأطفال في مناطق الحرب.
وسلطت المجلة الضوء على شجاعتها في مواجهة الانتقادات والتنمر من الجماعات المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي بسبب مواقفها، وإصرارها على أن الدفاع عن آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين يتعرضون للقتل والتشويه لا يقلل من اهتمامها بأي طفل آخر.
رداء يهزم الخطابات
كانت إطلالة مس ريتشل في حفل “غلامور” لتسلم الجائزة بحد ذاتها رسالة قوية ومؤثرة لفتت الأنظار عالميًا، إذ ارتدت فستانًا فريدًا من نوعه، مصنوعًا من خامة مُعاد تدويرها، ومطرّزا برسومات رسمها أطفال غزة خصيصاً لها.
شرحت مس ريتشل على السجادة الحمراء أنها أرادت أن “تحمل قصصهم في قلبها” وتُظهر للعالم أن هذه الرسومات هي “شهادة حية” على وجع الأطفال الذين يعيشون الحرب. وأكدت أن “حبي ورعايتي للأطفال لا يقفان عند حدود بلدي. إنهما يشملان كل طفل في العالم”، معتبرة أن الدفاع عن الأطفال واجب أخلاقي لا يقبل المساومة.
الرسومات كانت تحمل رموزًا قوية عن الهوية، الأمل، والسلام، لكنها عكست أيضًا مأساة النزوح والحرب، إذ تضمنت العديد من الرسومات ألوان العلم الفلسطيني، ورسمًا مباشرًا للعلم نفسه، كرمز للهوية الوطنية والصمود.
كما وظهرت رسومات لفاكهة البطيخ بشكل متكرر، التي ترمز للتضامن الفلسطيني؛ لأنها تحتوي على الألوان الأربعة للعلم الفلسطيني، وقد استُخدمت كرمز بديل للتعبير عن الهوية الفلسطينية عندما كانت الأعلام ممنوعة.
أحد أكثر الرسومات تأثيرًا كان رسم طفل صغير يحمل منزله أو خيمته على ظهره. هذا الرسم يجسد مأساة النزوح القسري وفقدان المأوى، حيث أصبح البيت عبئا يحمله الطفل على كتفيه بدلًا من أن يكون ملاذًا آمنًا.
وأشارت مس ريتشل بشكل خاص إلى رسومات طفلة تدعى “رنا”، وهي طفلة فقدت أختيها (إحداهما رضيعة تبلغ 9 أشهر) في قصف. ونقلت كلمات رنا في خطابها الحماسي، قائلة: “رنا أرادت أن تقول، أخواتي لسن أرقامًا. إنهن أقمار. إنهن مثل النجوم، يتألقن ويلمعن”. هذه الكلمات والرسومات المرافقة لها كانت تهدف إلى إضفاء الطابع الإنساني على الأرقام الهائلة للضحايا، والتأكيد على أن كل طفل هو فرد فريد وله قصته وقيمته.
باختصار، كان الفستان عبارة عن معرض فني متنقل يحمل رسائل الصمود، الأمل، والهوية، وصرخة ضد النزوح والحرب، مُوقّعة بأيدي أطفال غزة الذين حولت مس ريتشل قصصهم إلى قضية عالمية. هذا الرداء، كان لوحة مضادة للبروباغندا، و بيانًا فلسفيًا أعلنت فيه بوضوح أن وظيفة المعلمة تتجاوز الفصل الدراسي، وأن المسؤولية الأخلاقية لا يمكن مقايضتها بسلامة الحساب البنكي.
“المخاطرة بكل شيء” من أجل القضية
على صفحتها في موقع انستغرام، نشرت المعلّمة الأميركية فيديوهات عن كيفية تواصلها مع الأطفال في غزّة، وماذا تلقّت منهم من صور ورسائل وروسومات، كما أنها استضافت طفلة فلسطينية فقدت ساقيها في برنامجها لتسليط الضوء على قصتها.
شجاعتها لم تقف عند حدود استضافة الأطفال الفلسطينيين أو الحديث عن معاناتهم، فهي التي صرّحت في حوار مع إذاعة WBUR-FM الأميركية بأنها مستعدة لـ “المخاطرة بكل شيء” وحتى بمسيرتها المهنية، من أجل الوقوف إلى جانب الأطفال المتضررين من الحرب والمجاعة، وخصوصًا في غزة.
وفي مقالة نشرتها مجلة “الغارديان” البريطانية، نقلت عن المعلّمة قولها بأنها “لن تكون مس ريتشل” إن لم تكن تهتم بعمق بجميع الأطفال، وأن هذا الموقف ينبع من صميم هويتها وقيمها كمعلمة ومربية. وفي مقابلة مع قناة “سي ان ان” الأميركية، أكدت “مس ريتشل” على أنها “لا تؤمن بأن الرعاية العميقة وهذه المسؤولية تتوقف عند أطفالنا فقط”، مشددة على التزامها الأخلاقي تجاه جميع الأطفال حول العالم، وأعلنت عن تأثرها العميق بمتابعة ملايين الأطفال لها، وخاصة الأطفال في غزة، قائلة إن الأمر يؤثر بها بطريقة لا يمكن وصفها – أن تفرحهم ولو قليلًا – وسط “معاناة لا تُوصف”، وأن تكون بجانبهم خلال ما وصفته بـ “الإبادة الجماعية”.
من صانعة محتوى إلى مناضلة
على عكس العديد من الشخصيات العامة في الغرب، اختارت مس ريتشل عدم التزام الصمت بشأن الأزمة الإنسانية في غزة، على الرغم من معرفتها أن هذا الموقف قد يعرّضها لخسارة الشهرة والتهديدات.
واستخدمت عبارات واضحة وقوية مثل المطالبة بـ “وقف فوري لإطلاق النار” وضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، واصفة ما يحدث بأنه “إبادة جماعية” في بعض الأحيان، مما سلط عليها الأضواء بشكل كبير. كما وأنها كانت قد بدأت بتخصيص جزء من منشوراتها على منصات التواصل الاجتماعي (التي يتابعها ملايين الآباء والأمهات) لتسليط الضوء على قصص ومعاناة أطفال غزة، مما أحدث تأثيرًا كبيرًا في الرأي العام.
يعدّ استضافتها للطفلة الفلسطينية رهف، التي فقدت ساقيها بسبب القصف الإسرائيلي، أبرز مثال على دعمها. ولم تكتفِ بالحديث عن المعاناة، بل جعلتها تشاركها الغناء في أغنيتها المعروفة “Hop Little Bunnies”، كان هذا المشهد رسالة قوية ومؤثرة جدا للعالم بأن الأطفال المشوهين والمبتورين الأطراف هم أيضا بحاجة إلى اللعب والفرح، وأن إعاقتهم لا تلغي حقهم في الطفولة.
أكدت مس ريتشل باستمرار أن رسالتها الأساسية هي أن كل طفل مهم، وأنها لا تستطيع فصل نفسها كمعلمة عن قضايا الأطفال الأشد ضعفا، بغض النظر عن انتمائهم.
وأعلنت دعمها لمنظمات إنسانية عالمية مثل (Save the Children) ومنظمات أخرى تركز على تقديم المساعدات الطبية والغذائية للأطفال في مناطق النزاع، بما في ذلك قطاع غزة واليمن والسودان. بهذا الموقف، تحولت مس ريتشل من مجرد مقدمة محتوى تعليمي إلى “مناضلة”، حيث وضعت مسؤوليتها الأخلاقية فوق مصالحها المهنية والشخصية، وهو ما أكسبها احتراما وتقديرا عالميين واسعين.
أغاني الأطفال.. ترعب إسرائيل أيضًا
لا يمكن الاعتبار أن “مس ريتشل” تشكل خطرًا على الرواية الإسرائيلية، إلا أن ردود الفعل تركزت على محاولة نزع المصداقية عنها واتهامها بنشر “دعاية” معادية لإسرائيل، واستغلال مكانتها المؤثرة.
وطالبت منظمة أميركية مؤيدة لإسرائيل تُدعى “أوقفوا معاداة السامية” بالتحقيق الرسمي مع مس ريتشل، متهمة إياها بـ “نشر دعاية حركة حماس” و”معاداة السامية”، وتلقي أموال لدعم أجندات معادية لإسرائيل. كان الهدف الواضح لهذه الحملة هو تخويفها وإسكاتها، وربما إزالة محتواها أو المطالبة بفصلها من أي منصات إعلامية رئيسية تتعامل معها (مثل نتفليكس أو يوتيوب).
هذه المحاولات لم تسكت المعلّمة الأميركية، واستمرت في استخدام منصاتها لنشر المعلومات، لا سيما حين نشرت أرقام الضحايا من الأطفال في غزة، والتي قدمتها وزارة الصحة في القطاع وأكدتها منظمات دولية عدة، مثل الأمم المتحدة، لتخرج الجهات المؤيدة لإسرائيل مجددًا وتتهمها بـ “تضخيم المعلومات الخاطئة” و”نشر إحصائيات تنقل عن حماس”.
كما وهوجمت لنشرها تقارير حول وفاة الأطفال نتيجة انخفاض حرارة الجسم في غزة خلال الشتاء. وتم اتهامها بأنها “تتجاهل إلى حد كبير معاناة الضحايا الإسرائيليين” والأطفال والرهائن، وتركز فقط على المعاناة الفلسطينية.
ردت مس ريتشل حينها على هذه النقطة بأنها تحب “كل طفل”، وأنها لا تؤمن بأن مسؤوليتها تتوقف عند أي حدود جغرافية أو دينية، وأنها تدافع عن جميع الأطفال الذين يعانون، مؤكدة أن الدفاع عن أطفال غزة لا يعني تجاهل أي طفل آخر.
وتعرضت بعدها لحملة واسعة من التنمر والكراهية الإلكترونية على منشوراتها، خاصةً على انستغرام، حيث اتهمها المهاجمون بالنفاق السياسي واستغلال الأطفال، لتظهر بعدها في مقطع فيديو وهي تبكي وتصف التعليقات التي تتهمها بعدم الاهتمام “بجميع الأطفال”، لكنها أكدت أنها لن تتوقف عن الدعوة لوقف العنف.
الصمت ليس حيادًا
في نهاية المطاف، لا يمكن اختصار قصة مس ريتشل في عدد المشاهدات أو حجم التكريم. قصتها هي فحص وجودي لروح العصر: هل ما زال يمكن للضمير أن يربح المال؟
لقد أثبتت راتشيل أكورسو أن الصمت ليس حيادًا، بل هو ثمنٌ يدفعه الشجاع وحده من مصداقيته الأخلاقية. وبينما كان المتوقع منها أن تواصل تقديم أغاني “الأرانب القافزة” لتأمين عقودها الإعلانية، اختارت بدلًا من ذلك أن ترتدي رداء أبيضَ مطرّزًا بالدموع والكرامة.
في زمن تترنح فيه القيم، أصبحت “مس ريتشل”، ببساطتها وشجاعتها، هي الرمز الذي نحتاجه: الدليل القاطع على أن صوت الحق، مهما كان ناعمًا أو بسيطًا، أقوى وأبقى من قعقعة السلاح وضجيج الأكاذيب، وأنه قادر على هزم جيوش التنمر، وتجريد الخطابات الكبرى من سلطتها، وإعادة تعريف البطولة الحقيقية في القرن الحادي والعشرين.




