هيئة التحرير
في الثالث من شباط/فبراير 2022، استيقظ الأسير وليد دقة (59 عاما) من نومه في سجون الاحتلال، بمشاعر مختلطة من الفرح والحزن والشوق لميلاد، طفلته الصغيرة التي يشتاق لرائحتها، والتي لم يستطع منذ ولادتها في 2020 لمسها ومعانقتها فكتب لها بتاريخ ميلادها:
“بابا ميلاد.. كل عام وأنت بخير يا زكاوة الدنيا كلها
اليوم يا بابا تكملين عامك الثاني، عام آخر يمر دون أن احتضنك ودون أن أحظى بقبلة واحدة منذ ولادتك.
عام آخر يمر وأنا فرح به لأنه يقرّبني من لحظة اللقاء بك ويحزنني لأنني أخسر عاماً آخر من طفولتك.
سنة حلوة يا حبيبتي سنة حلوة ملودتي.
أبوك وليد دقة – سجن عسقلان
العام الثاني بعد الميلاد”
بداية الحكاية
ولد الأسير دقة في الأول من كانون الثاني/يناير 1961، لأسرةٍ فلسطينيّة تتكوّن من ستّة أشقّاء وثلاث شقيقات، في باقة الغربية، وفي عام 1985 اعتُقِل وليد برفقة مجموعة من الشبان وهم إبراهيم ورشدي أبو مخ، وإبراهيم بيادسة، بعد اتهامهم باختطاف الجندي “موشي تمام” وقتله من مدينة “نتانيا”، فحكم عليهم بالسجن المؤبّد مدى الحياة.
في عام 1999، ارتبط الأسير دقة بزوجته سناء سلامة، بعد قصة حب استمرت ثلاث سنوات، حيث تعرف عليها عام 1996 حين كانت تعمل صحفية في صحيفة الصبّار الصادرة في يافا، بعد أن تمكنت من زيارته كونها كانت تختص بالكتابة عن الاسرى، لتبدأ رحلتهما سوية، توجت بعقد قرانهما في 10 آب/أغسطس 1999 داخل سجن عسقلان، بحضور عائلتيهما ومشاركة 9 أسرى، وقد جرى توثيق ذلك الارتباط بالصور.
ومما جاء في تلك الرسالة الموجهة لطفله الذي لم يولد بعد
” انت رسالتي للمستقبل بعد ان امتصت الشهور رحيق اخوانها الشهور.. والسنين تناصفت مع اخواتها السنين..
اتحسبني يا عزيزي قد جننت؟ اكتب لمخلوق لم يولد بعد؟؟
ايهما الجنون.. دولة نووية تحارب طفلا لم يولد بعد فتحسبه خطرا امنيا، ويغدو خاطرا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعتها القضائية.. ام ان احلم بطفل؟؟
ايهما الجنون.. ان اكتب رسالة لحلم ام ان تصبح الحلم ملفا في المخابرات؟؟
هل أكف عن حلمي؟؟ سأظل أحلم رغم مرارة الواقع. وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها. هم ينبشون قبور الأجداد بحثا عن أصالة موهومة. ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد.. لا شك آت.. سلام ميلاد”.
عام ونصف بعد ولادتها والعائلة تناضل من أجل تمكين ميلاد من زيارة والدها، بسبب عدم اعتراف سلطات الاحتلال بها، حتى انتزعت العائلة قرارا من المحكمة بذلك، فكانت زيارة ميلاد الأولى لوالدها في سجون الاحتلال مليئة بالمشاعر.
وتروي سناء لحظة الزيارة الأولى لميلاد قائلة “كان اللقاء مؤثرا للغاية، لدى وليد والأسرى في القسم الموجود به” مضيفة ” حين حصلنا على قرار المحكمة الذي سمح لميلاد بزيارة والدها، طلب مني وليد أن تدخل ميلاد وقت الزيارة على قدميها حتى يراها كلها، على أن يقف هو بين اثنين من الاسرى، لكي اطلب من ميلاد أن تشير اليه وهذا ما جرى، لكن وليد لم يكن قادرا على الوقوف على قدميه حين دخلت ميلاد، كان يجلس هو وبقية الاسرى ويبكون، وقد احتاج لوقت طويل حتى استطاع السيطرة على نفسه. كان الموقف مؤثر جدا. كانت الزيارة كانت من خلف الزجاج، ولم يستطع وليد احتضان ميلاد وشم ريحتها وتقبيلها”.
وتضيف سلامة ” كانت فرحة غير عادية، امتزج بها الحزن مع الفرح، وعبر عنها وليد بالدموع لوقت طويل”.
ثلاثة عقود ونصف، عاشها دقة من مدينة باقة الغربية في سجون الاحتلال، قبل أن ترى ميلاد النور عبر النطف المهربة، لم تكن ثقيلة عليه، كما ثقلها الآن، وهو الذي يعد الساعات والأيام والشهور من اجل تلك اللحظة التي يعانق فيها طفلته التي كانت تجسيدا حقيقيا للحرية، فوليد بعد ميلاد ليس كما قبلها.
وتقول سناء عن الاختلافات التي طرأت على وليد بعد ميلاد ” أصبح السجن أكثر صعوبة لوليد ولنا بعد ميلاد، لأنها أعطت معنى لكل شيء، واعطت للحرية معاني كثيرة، وأصبحت الأيام أكثر ثقلا عليه بانتظار رؤيتها ومعانقتها”.
وتضيف ” أن ما يثقل كاهل الأسرى علاقتهم بمن يحبون سواء أهلهم وأولادهم أمهاتهم، فإجراءات الاحتلال وإدارة السجون لا تهزهم ولا تضعفهم، لكن ما يكسر الانسان ويجعله ضعيف بالمعنى الإيجابي، أن من يحبهم بالخارج ولا يستطيع اللقاء بهم، لذلك الحياة أصبحت أصعب بالنسبة لوليد ولكنها أجمل بنفس الوقت، فهو يصبر ويعيش من أجل لحظة لقاء ميلاد”.
وكان من المفترض أن يُفرج عن وليد مع بداية عام 2023، لكن سلطات الاحتلال اضافت الى حكمه السابق عامين اضافيين على قضية “الهواتف النقالة المهربة” ليتأجل موعد حريته الى بداية 2025، وتقول سناء بحسرة “قبل ولادة ميلاد لم نكن نعد الأيام والشهور، الان نعد بعد ميلاد نعد الدقائق من أجل حرية وليد”.
لم تكسر عقود الاعتقال إرادة وليد وحبه للحياة، واستطاع تحويل “زمنه الموازي” في المعتقل، الى فعل مواجهة ونضال وثقافة دائمة، عبر سلسلة من الكتب والمقالات، وحصوله على درجة الماجستير، حتى أصبح دقة أبرز مفكري الحركة الأسيرة، ولعل أبرز مؤلفاته كتاب “صهر الوعي”، كما شارك وقاد الكثير من المعارك النضالية التي خاضتها الحركة الأسيرة دفاعًا، عن منجزاتها ومكتسباتها، وساهم معرفيًا في فهم تجربة السّجن ومقاومتها، ومن أبرز ما أصدره الأسير دقة: “الزمن الموازي”، “ويوميات المقاومة في مخيم جنين”، و”حكاية سرّ الزيت” وتعرّض الأسير دقة لجملة من السياسات التنكيليّة على خلفية إنتاجاته المعرفية بشكلٍ خاص.
ولعل أكثر ما كان لافتا في تجربة وليد الإبداعية، هي أعماله الروائية الأخيرة التي كانت مخصصة للأطفال واليافعين، وهما “حكاية سر الزيت”، وكتاب “سر السيف” الصادر حديثا والذي لم يتم حتى الان تنظيم حفل اشهار له، والذي سيكون له أجزاء أخرى ضمن هذه السلسلة.
وتعرض وليد بعد نجاحه بتهريب مخطوطة “حكاية سر الزيت” الي عزل قاس من قبل إدارة سجون الاحتلال، على غرار تعرضه للعزل عندما ولادة ميلاد، حيث عاش بظروف قاسية بالعزل وحرم من الطعام و الكانتينا” وتعرض لحملات تفتيش واقتحام لزنزانته، كما تقول سناء.
وأضافت سناء ” لقد كتب وليد عن عزله بطريقة استثنائية، وكتب عن الحقد الذي اعترى وجوه قوات الاحتلال وهي تقتحم زنزانته وتفتشها كنوع من الاستفزاز بعد ولادة ميلاد، حتى أن قائد الشمال اقتحم زنزانته في سجن جلبوع وأراد انتزاع صور ميلاد التي جرى تهريبها اليه، لكن وليد قاومه ورفض تسليمها له”.
ولفتت ان ما كتبه وليد عن تلك التجربة سيصدر في سيرة ذاتية مليئة بالتفاصيل، “اعتقد انها سترى النور بعد انتزاع وليد حريته”.
طوى وليد 37 عاما في سجون الاحتلال، وهو يناضل الآن رغم ما حفرته سنوات الظلام والقيد على جسده، ليطوي ما تبقى من سنوات العتمة، وينطلق مع اشعة الشمس نحو ميلاده التي تنتظره لينطلقا معا نحو طفولتهما سوية من جديد.
كتب وليد ذات يوم في ذكرى اعتقاله “في البدء تلاحظ الشقوق في الجدران، تداعبها، تطوّعها وتهرب روحك منها. ثم ماذا؟ تسأل نفسك وأنت تبحث عن معنى للحياة، بعد أن أدركت معنى الموت.. ثم تلاحظ الشقوق في روحك فتخشى التصدّع. تداعب خيط نور الشمس الذي نجح بالتسلل من بين قضبان شباك الزنزانة، وتخيط به لميلاد دمية”.