كتبت ميسر أبو خليل
يكثر الحديث عن الألم والكتابة عنه، قد يكون مبرر كل ذلك أن عالمنا بات مبعَثاً للكثير من الآلام والخيبات والبؤس والإحباط.
إلا أن هناك أشخاص يصرّون أن يرون النور حتى في الغرف المظلمة، ولا يكتفون بهذا بل ويصنعونه، ويدعون الله دوماً أن يكونوا نوراً يمشي بين الناس، يحطمون كل أصنام الوهم واليأس التي وجدوا عليها مجتمعاتهم، ليشيّدوا للناس منارات من الأمل والمحاولة والسعي والنجاح والتقبّل، فيعيش المرء منا بالنهاية في عالمه الصغير الذي يبنيه لنفسه، يصنعه بسلام وحب وطمأنينة يأوي إليه.
ريم خليل، قبل أن أقول لكم من هي، جرب أن تنطق اسمها وتسمعه، أنا متأكدة أنه سيقطر أملاً لمجرد لفظه وسماعه وكأنه نغمة موسيقية عذبة.
الآن اقرأ ما سأقوله لك بقلبك، وانفض عنه كل ما علِق فيه من شوائب الدنيا الضارة الواهنة، لأن ريم لا تحب الوجوه الواجمة، لا تحب اليأس، لا تحب الوهم، لا تحب المحبِطين المثبِطين.
ريم خليل فلسطينية الجنسية، مواليد عام 1980، زوجة وأم لطفلتين جميليتين، حاصلة على بكالوريوس الهندسة المدنيّة من جامعة بيرزيت، وعلى درجة الماجستير في الهندسة البيئية والموارد المائية، من جامعة تكساس في أوستن.
وشغلت منصب المدير الإقليمي لمؤسسة دروسوس مؤخراً منذ عام 2017، بالإضافة لخبرتها في مجال التعليم والتدريب، وبناء المؤسسات وتطويرها، وناشطة شبابية ومجتمعية بارزة في المجال التنموي والخيري.
أذكر جيداً أول لقاء بيني وربين ريم قبل أربع سنوات، التقينا صدفة في إحدى الفعاليات، وانسجمنا سريعاً وتناغمت أفكارنا، فأصحاب الهمّ الواحد لا بد وأن يلتقون على رصيف الحياة في النهاية.
في إحدى المرات كنت أحدثها بشغف عالي وإعجاب كبير عن السيدة سميحة خليل ودورها النضالي والانساني والمجتمعي في فلسطين، وكيف أننا بحاجة لتكرار هذه النماذج وبقائها حيّة في مجتمعنا كصورة ثابتة تتربى عليها الأجيال، وتحمل ذات القيم الوطنية الواضحة المنحازة للانسان وكرامته وحقوقه وحريته.
فقالت بضحكة خجولة ممزوجة بالفخر: بتعرفي إنو سميحة خليل ستي؟!
تفاجأت وسررت بهذا، وقلت هذا ليس بغريب، فالعرق دساس.
وأكملت حديثها بتوقٍ عالٍ بأن تتمنى أن تكون مثل جدتها، ناشطة وباعثة للأمل وتقف إلى جانب المظلومين والشباب، وتؤدي الرسالة كما ينبغي على أكمل وجه.
في غمرة كل ذلك كانت ريم تعاني، ولا أحد يعلم، فقد هاجمها مرض السرطان بقوة في بداياته منذ سنوات، ولكن الله كتب لها النجاة والشفاء، رغم أنها ظلت تعاني لاحقاً من آثار وأوجاع تداهمها على فترات متكررة، وكانت تتسلح بالإرادة والصبر والدعاء واليقين والعلاج، إلا أنه في آخر مرة باغتها فيها المرض لم يكن رحيماً.
إنه مرض السرطان الخبيث، الذي يسلب منا الأحباب دون أن نعلم، كومضة خاطفة سريعة مؤلمة، والقلب لم يرتوي بعد منهم، ولم يتسع الوقت لكل الاحلام، والأيام الجميلة، واللحظات الكاملة بالسعادة، وتلوين العالم ما استطعنا بالحب والأمل.
فغادرتنا ريم خليل يوم 24/12/2021 في صدمة مؤلمة لكل من شهد لها بحسن الخلق ودفء الرفقة، وقوة الإرادة، ودأب المحاولة، ودعم الشباب.
ففلسطين فقدت نهراً متدفقاً بالدعم والحب للآخرين، لأنها آمنت دوماً بزرع الأمل في نفوس الشباب سعياً نحو النهوض ببلادها، ولتبثت فاعلية النساء من خلال المحافل الإجتماعية والتعليمية بما يعزز مكانتها وقيمتها الحقيقية في بيتها ومجتمعها على حدا سواء، وهي التي لم تقل لأي فكرة تطرح أمامها لا، بل سنحاول، يمكننا فعل ذلك.
ولأن الانسان حيّ بحلمه، فإنه يظل حياً به وإن فارق الحياة، وهذا أثر الفراشة الذي تركته ريم خلفها (حلم ريم)، فهي فراشة، تقترب دوماً من النور فلا يحرقها، لأنها تضيء فيه الآخرين ولا تستأثر به لوحدها، فعندما يحسن المرء إضاءة نفسه يحسن إضاءة الآخرين معه، فالقلب المعتم معطوب بالضرورة، ولا يستطيع أن يهب النور للناس أو يضيء ما حوله.
ريم عانت خلال فترة صراعها مع مرض السرطان من قلة الإمكانيات في فلسطين، مما اضطرها لمتابعة العلاج خارج البلاد، وكان حلمها الدائم أن تدعم القطاع الطبي في هذا المجال تحديداً لكل من يمر بمعاناتها، وتختصر الطرق والسبل التي خاضتها خلال رحلة العلاج على غيرها مما يعاني من نفس ألمها، فأصحاب الألم الواحد يشعرون ببعضهم البعض وقادرون على دعم بعضهم البعض.
ولكن الحلم لم يكتمل، ماتت ريم، وورثتنا حلمها، لنكمله نحن، بالحب والإرادة والتعاضد.
حملة ريم
ليطلق أهلها وأصدقاؤها حملة (حلم ريم) التي تسعى إلى تحقيق رؤية ريم، في استلهامها لخطة متكاملة مستوحاة من معاناتها الشخصية لتقليل التحديات التي تواجه مرضى السرطان في فلسطين، بحيث يصبح هناك وجود مرجعية مركزية تقدم خدمات شاملة لمرضى السرطان، والتخفيف من الإجراءات اللوجستية البطيئة، وتم اختيار مستشفى المطلع، باعتباره عنوانًا فلسطينيًّا مقدسيًّا لتوفير العلاج لمرضى السرطان، بما يقدّمه من خدمات متخصصة ونوعيّة، على مستوى الوطن، إضافة لوجوده في المدينة الأحب لقلب ريم، القدس.
يتم دعم الحملة بالتبرع من خلال منصة Launch Good:
أو من خلال الحوالات البنكية:
علماً أن الحملة بدعم الناس والقلوب المليئة بالخير وصلت حتى الآن لمبلغ أكثر من 100.000 دولار.
وما زال السعي مستمر والحلم دائم، بأن يتم تحقيق حلم ريم، لتخفيف المعاناة عن كل مرضى السرطان قدر المستطاع.
ريم عمرها الرقمي قصير، ولكنه عريض وواسع، حتى في مماتها كانت استثنائية، وتركت وراؤها حلماً يشحذ الهمم من جديد، ويدنو من آلام الانسانية ويمسح على أوجاعها، لتضرب بحياتها ومماتها مثالاً للمرأة الفلسطينية الملهمة والمحبة والمعطاءة، التي ألهمت الكثيرين بفكرها وحبها لوطنها، وتركت أثراً طيباً حيثما حلت، كأثر الفراشة، لا يُمحى ولا يزول.
هكذا هي النجوم العملاقة، لا تموت، وتظل معلقة في السماء.