loading

سأصبح شيرين أبو عاقلة

كتبت ياسمين الأزرق

“سأصبح شيرين أبو عاقلة عندما أكبر”، كنت أتباهى بهذا الحُلم الطفولي وأنا ممسكة بفرشاة الشعر بجانب تلفازنا الصغير المحدّب الظهر آنذاك، بينما أختم عباراتي بالفصحى الركيكة بجملة حفظتها عن ظهر قلب “شيرين أبو عاقلة، فلسطين المحتلة”. 

وكعائلة مغتربة خارج فلسطين، كانت النشرة الإخباريّة تمثّل لنا مسلسلاً عائليًّا، نجتمعُ حول التلفاز وننتظر أن تطلّ علينا شيرين أبو عاقلة، لتروي لنا ما يحدث في بلادنا من أحداث وخاصة خلال الانتفاضة الثانية التي رُغم غيابنا عن ساحتِها إلا أن صدى أحداثها لا يزال يتردّد في رأسي بصوتِ أبو عاقلة، وكانت بصوتِها المُحبب تطمئننا حين تنقبض قلوبنا قلقًا على الأهل في الوطن، ونحنُ بدورنا لا نصدّق صوتًا عداها فإن سردت الخبر فهو حاصل لا محال وإن لم تقله لنا فإن البال يظل مشغولًا بالأحداث البعيدة مسافة بلاد.

كبرت، وكبر الحلم معي فدرست الصحافة، لأدرك بأن “شيرين أبو عاقلة” لم تكن حُلمي الجميل فقط، بل حلم الكثير من أبناء وبنات جيلي، أطفال التسعينات ممن كبروا على صوتِها وصدّقوها وأحبوها، فتحوّلت إلى أيقونة الصحافة بالنسبة لهم، وجعلت هذا التخصص على قائمة أحلامِهم حين يفكرون في رسم مستقبلهم.

استقبال جثمان شيرين أبو عاقلة في القدس المحتلة | وفا

قُتِل الحلم

على مرأى العالم أجمع، قتل الاحتلال الإسرائيلي “الحلْم” برصاصة قناصٍ متفجّرة اخترقت رأس شيرين واستقرّت في قلوبنا إلى الأبد.. قُتلت شيرين، وكأن أحدَهم أطفأ التلفاز في منتصف الخبر، قبل أن يكمل المراسل سرده، وسِرنا في الشوارعِ هائمين نبحث عن بقية الخبر، يواسي الكُل الكُل بالنظرات، نعرف من بكى بحرقة ومن دمعت عيناه، ومن ينتظرُ العودة إلى البيت كي يبكي وحيدًا بعيدًا عن العيون، لم نبحث عمّن نواسيه بهذا الفقد، لم نحاول إيجاد أصدقائها المقربين، فقد كانت قريبة إلينا كفردٍ من أفراد عائلتنا، شاركتنا وجبات طعامِنا، واحتفالاتِنا المنزلية، وسهراتِنا الليلية، فحق لها أن تمتلك جزءًا من ذاكرتنا في مراحل مختلفة من حياتنا على مدى 25 عامًا.

بكينا شيرين، ولم تسعفنا طاقتنا على الهتاف إلا بالقليل، زغردت بعض نسائنا، وهرول الكثير ممن يحاولون التأكد من الخبر بينما تنقل جثمانها من جنين إلى نابلس ورام الله وصولًا إلى القدس مسقط رأسها، وخلفه مشينا جموعًا وحشودًا نودّعُها كمن يودّع قريبًا أو صديق طفولته، واكتظت الشوارع بكُل الحالمين بأن يصبحوا ذات يومٍ “شيرين أبو عاقلة”.

طفولة مرتبطة بمراسلة حربية!!

لو نشرت الآن استفتاء عن عدد الذين حلموا يومًا أن يدرسوا الصحافة كي يصبحوا مثل شيرين أبو عاقلة، ومن قلدوها بينما كانوا يمسكون فرشاة الشعر، قارورة الماء أو ساندويشة على طاولة العشاء، لجمعت الآلاف منهم، فبالنسبة لي لا أذكر كم مرّة لعبت لعبة “بيت بيوت”، لكنّي أستذكر عشرات المرّات التي لعبنا فيها لعبة المراسلين، وكان حينها يقول أحدنا للآخر “يلا نلعب شيرين أبو عاقلة ووليد العمري؟” قبل أن تعلو الابتسامة وجوهنا بالإيجاب، ويتباهى الذي أتقن الدور أكثر.

من استقبال جثمان أبو عاقلة في رام الله | وفا

مخيفة هي الذكرى بقدر حقيقة مقتل شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال وهي ترتدي درع الصحافة، فكل هذه الذكريات التي انقضت علينا منذ أن دوى بنا الخبر المفجع، تؤكد على أننا حظينا كفلسطينيين بطفولة صعبة، لترتبط ذاكرتُنا بمراسلة حربيّة، وتكون لعبتنا المفضلة هي التمثيل لإتقان الدور في تقليدها وهي تعلن استشهاد طفلٍ أو هدم بيت أو سلب حُريّة آلاف أسرى فلسطين على مدى 25 عامًا من مسيرتها المهنية العريقة!

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة