هيئة التحرير
كان المشهد حلما مشتهى، أقرب إلى لحظة تحرر منتظرة في شوارع القدس العتيقة، التي فسحت المجال لاحتضان طوفان بشري جاءها من كل حدب وصوب، للسير على درب الآلام كما المسيح، رافعا علم فلسطين لتشييع الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وجارفا من شوارعها علم الغزاة.
والقدس التي تعرف كسر الحواجز، ولا تخضع لقوانين احتلال كما اعتادت دوما، كانت اليوم استثنائية في وداع أبو عاقلة إلى مثواها الأخير، فقهرت الاحتلال وداست على شروط التشييع، وخرجت لوداع ابنتها كما يليق بها.. فحُمل النعش فوق الأكتاف رغما عن هراوات شرطة الاحتلال، ورفرف العلم ساميا عاليا فابتسمت سماء المدينة رغم الحزن، وصدحت الحناجر لفلسطين، فضاقت القدس أكثر على محتليها.
وكما يليق بشيرين أبو عاقلة، لم تخلف القدس موعدها ووعدها، فودعت ابنتها في أكبر جنازة تشهدها منذ رحيل أمير القدس فيصل الحسيني عام 2001، فُقرعت كل أجراس الكنائس سوية لأول مرة منذ مئات السنوات حزنا وحدادا عليها، وصلى المسلم إلى جانب المسيحي في صلاة وداعها الأخير، وارتفعت الدعوات إلى السماء، في مشهد لا يحدث دائما.
ولأن الحدث استثنائي والحزن استثنائي على الشهيدة شيرين أبو عاقلة، كانت جنازتها استثنائية أيضا، فحظيت بدل جنازة واحدة بعدة جنازات على امتداد البلاد، في أطول وداع يسجل في التاريخ الفلسطيني الحديث، بدأ من جنين وصولا إلى القدس، حيث المستقر والراحة الأبدية.
ولأن جنين هي البداية والسر، وفي ترابها خبأت شيرين بعض دمها، ومن أرضها صعدت روحها إلى خالقها، لم يكن لأهل المدينة أن يسمحوا بمغادرتها دون تشييع يليق بها، يكرمونها بالبكاء والحزن ورصاص المقاومين، الذين حملوها على أكتافهم ملفوفة بالعلم الفلسطيني، تحت ظلال بنادقهم.
شيرين أبو عاقلة.. ومن مثل شيرين لدى أهل المدينة ومخيمها، فقيمتها محفوظة، وقدرها عال واسمها حاضر في كل بيت وذكرى، وهي التي كانت صوتهم وصورتهم في أقسى ظروفهم قبل سنوات، حين كانوا يواجهون الموت في اجتياح 2002، فبكت مع أمهات الشهداء، وربتت على أكتاف أمهات الأسرى وواست من هدم بيته، فكان تشييعها بتلك الصورة قبلة محبة على جبينها، وخرج آلاف الناس إلى الشوارع، نساء ورجال وأطفال ليبكوا شيرين، ويهتفوا باسمها.
أم أحمد فريحات التي خرجت وهي باكية في تشييعها في جنين اختصرت حكاية المدينة مع شيرين، قائلة عنها أن شيرين خاضت معركة جنين “من أول يوم لآخر يوم” وكانت تبحث على الشهداء مع الأهالي “ريقها ناشف وفش قنية مي نشربها”، تضيف ” الله يرحمها شيرين، لما سمعت الخبر الصبح انصعقت، كانت تدور معي على أولادي، انجنيت عليها شيرين، بقدرش احكي، انجنيت عليها، لحقت دلال المغربي”، لتبدأ بعدها بالهتاف لها.
بعد ساعات من الترقب انتهى تشييع شيرين أبو عاقلة في جنين، وكانت المحطة الثانية مدينة نابلس التي كانت تقف على قدم واحدة بانتظار قدومها، من أجل تشريحها في معهد الطب العدلي في جامعة النجاح، لكن القرى والبلدات الواقعة بين جنين ونابلس لم تكن تسمح بمرور شيرين مرور الكرام، دون أن يؤدوا التحية لها، فقد أغلق الأهالي في بلدة السيلة الظهر أبواب محالهم التجارية واصطفوا على جوانب الطريق بانتظار مرور الجثمان في سيارة الإسعاف حيث اعترضوه، ومنعوا مروره إلا بعد تأدية السلام والوداع والعرفان والتحية لها، وتشييعها في البلدة ولو لبضعة دقائق، وهذا أيضا لا يحدث دائما.
وفي نابلس حيث أجري تشريح جسد شيرين أبو عاقلة، للوقوف على تفاصيل اغتيالها، شيعت في مراسم شعبية ورسمية في شوارع المدينة، فقد حملت على الأكتاف، واصطف المواطنون على جوانب الطرقات لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها، معتمرة الكوفية وملفوفة بالعلم الفلسطيني، وتليت عليها الصلوات قبل نقلها إلى محطتها التالية.
في رام الله، كان مكتب الجزيرة والشارع الواقع أمامه يضج بالصحفيين والمواطنين منذ ساعات الصباح، وهم يترقبون لحظة وصول شيرين إليهم، كان الوقت بطيء عليهم، أمضوه في البكاء، إلى أن وصلت سيارة الإسعاف التي تقلها فانفجر البكاء، وألقيت النظرة الأخيرة عليها وودعها الزملاء.
ورغم أن تشييع شيرين المعلن كان محددا في اليوم التالي، في مقر الرئاسة المقاطعة وبمشاركة الرئيس عباس، إلا أن الشبان الذين حضروا إلى مكتب الجزيرة رفضوا ذلك وحملوا الجثمان وساروا فيه في شوارع مدينة رام الله بمشاركة المئات من المواطنين، لتستيقظ رام الله في اليوم الثاني على موعد وداع شيرين الأخير، فانقسم المواطنين بين من توجه إلى المستشفى الاستشاري حيث كان جثمانها مسجى، وبين مقر الرئاسة حيث سيتم استقبالها وتشييعها حيث حظيت بجنازة رسمية حضرها الآلاف، بينهم شخصيات رسمية فلسطينية ودبلوماسيون أجانب، مع إلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان، فحظيت بتشييع مهيب استمر مع خروجها من المقاطعة وبعد ذلك مرورها بمخيم قلنديا حتى دخولها إلى القدس عبر الحاجز العسكري في المخيم، حيث كانت الوجهة المستشفى الفرنسي، فاستقبلها المشيعون وزملاؤها بالورود وجالوا فيه مرددين الهتافات الوطنية قبل إيداعه ثلاجة الموتى، رغم انتشار قوات الاحتلال في محيط المستشفى.
وكانت القدس اليوم الجمعة على موعد أخير مع شيرين فخرج الآلاف في تشييعها رغم حواجز الاحتلال والانتشار المكثف لعناصره الذين منعوا الآلاف من الوصول إلى موكب التشييع، فأقيمت الصلاة عليها في كنيسة الروم الكاثوليك، وحملت على الأكتاف ومرت بجانب باب الخليل والآلاف يهتفون باسمها، ولأول مرة في القدس منذ مئات السنوات قرعت أجراس الكنائس في وقت واحد، ورفع المشيعون علم فلسطين رغم اعتداءات واعتقالات عناصر الشرطة للشبان، إلى أن وصلت إلى مثواها الأخير، ودفنت بجوار والديها.
وقال الصحفي جهاد بركات الذي غطى جنازة أبو عاقلة في جنين ونابلس ورام الله لـ”بال غراف”، “كانت جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة رحمها الله استثنائية بكل المقاييس، أخذت فيها شيرين التكريم الذي تستحق، وكانت بمثابة رد جميل وشكر على ما قدمته خلال مسيرتها المهنية الطويلة والحافلة في نقل الرواية والصورة الفلسطينية، وهنا لا أتحدث عن مشهد جنازة القدس المهيب؛ بل عن الجنازات المتعاقبة التي لم تتوقف، والتي لم أرَ في مسيرتي الصحفية جنازة شبيهة”.
وأضاف بركات “انطلقت الجنازة الأولى في جنين ومخيمها حيث استشهدت بتكريم استثنائي من المقاومين الذين حملوها على الأكتاف، وفي سيلة الظهر في جنين كذلك حيث أوقف الناس الموكب لتوديعها وتكريمها، وفي نابلس انطلقت الجنازة الثانية بعد الانتهاء من تشريح جثمانها، وفي رام الله الجنازة الثالثة فور وصولها إلى مكتب الجزيرة، وفي اليوم الثاني الجنازة الرسمية في مقر الرئاسة، وثم إيقاف أهالي مخيم قلنديا لها لتوديعها، قبل أن نتابع جنازتها الأخيرة اليوم من بعيد لأننا لا نستطيع الوصول إلى القدس”.
وأضاف بركات “كرمها اليوم المقدسيون، هي أعطت المقدسيين مساحة كبيرة ليثبتوا أن القدس لهم، رغم اعتداءات الاحتلال الأليمة، ووحدت الجميع بكل الأبعاد السياسية والدينية، وهذا التوحد العفوي للجميع يدلل على وعي فلسطيني كبير بدور الإعلام الحقيقي في الدفاع عن قضايا الفلسطينيين، وربما يرتبط بالدور الذي كان مفقودا ما قبل حقبة شيرين وزملائها الإعلاميين الآخرين”.
على مدار ثلاثة أيام شُيعت شيرين أبو عاقلة على امتداد البلاد بكثير من الحب والامتنان والدموع، إلى أن أسدل الستار عليها في القدس، التي لم تكن كذلك يوما ما، وكأن أهل القدس شيعوا، فاليوم جميع شهداء المدينة الذين ارتقوا ولم يحظوا بجنازة شعبية، وكل الشهداء الذين دفنوا ليلا كي لا يسرق الاحتلال جثامينهم، فقليلون الذين حظوا بهذا التشييع المهيب منذ فصيل الحسيني عام 2001، والرئيس ياسر عرفات في 2004، والشيخ أحمد ياسين في 2004 ، وقليلون من تخاطف المواطنين جثامينهم في القرى والبلدات لكي يقدموا لها التحية وينالوا شرف تشييعها، وقليلون الذين حصدوا هذه المحبة الجارفة، التي انتصرت بها وهي ترقد إلى جانب والديها على رصاصة الاغتيال، وهراوات بطش وقمع الاحتلال، معلنة انتصارها، وموقعة على تقرير حياتها .