في الذكرى الرابعة والسبعون للنكبة….الفلسطينيون إلى أين؟

د. إبراهيم ربايعة[1]

يستذكر الفلسطينيون مع الخامس عشر من أيار في كل عام نكبتهم، حين تمكن المشروع الصهيوني من اقتلاع أكثر من 780 ألفاً من أرضهم، والاستيلاء على ما يربو عن ثلاثة أرباع أرض فلسطين، وممارسة التطهير المكاني والاجتماعي والعرقي بمحو مئات القرى، بدعم دولي، شرقي وغربي.

مع النكبة، سقط المشروع السياسي الفلسطيني الرامي لدولة ديمقراطية واحدة تجمع كل مواطنيها، عرباً ويهوداً، على مبدأ المواطنة وحماية الحقوق الاجتماعية والدينية، وتفوق المشروع الصهيوني، القائم على دولة – وليس وطناً قومياً- لليهود.

ورغم أن إسرائيل حققت نجاحات تالية، أوحت بنفاذ مشروعها وترسخه، وحولت العودة الفلسطينية- نظرياً- إلى حلم غير قابل للتحقق. إلا أن هذا المشروع وقع ضحية إقصائيته وعنصريته اللامتناهية. فمقابل الرؤية الفلسطينية الباحثة عن الحرية والاستقلال، يقف المشروع الصهيوني باحثاً عن قتل اية أنوية قد يبنى عليها نجاحات فلسطينية تفضي للانعتاق من الاحتلال.

اليوم، وبعد 74 عاماً على النكبة، تقف القضية الفلسطينية أمام أربعة وقائع مركزية، ترسم ملامح مستقبل

أولاً، أثبتت إسرائيل وبالوجه القاطع، ان العلاقة بين مشروعها الصهيوني، والمشروع الوطني الفلسطيني، علاقة متناقضة بشكل كامل، فإسرائيل بالنسبة للفلسطينيين نقيض لا يمكن الالتقاء معه، وليست عدواً يمكن الوصول إلى سلام معه. إن هذا التناقض ليس تناقضاً بين مشروعين سياسيين وحسب، بل هو تناقض أخلاقي بين الاستعمار والهيمنة من جهة، وبين الحرية والعدالة من جهة أخرى.

عمدت إسرائيل ومنذ النكبة إلى الفصل بين الأرض والفلسطيني، والتعامل مع الفلسطيني كآخر “أدنى”، بل إن هذا التعامل وصل إلى نزع الإنسانية وتشييء الفلسطيني. فهو إنسان لا يمتلك الحق بهذه الأرض، التي هي حق يهودي مطلق، وهو “ساكن” لا صاحب أرض، ما يفسر استخدام الخطاب الرسمي الإسرائيل مصطلح “سكان المناطق” لوصف الفلسطينيين في الضفة الغربية.

ومع توالي مشاريع ومقترحات التسوية من جهة، وبرامج “إدارة المناطق” الإسرائيلية من جهة أخرى، بقيت حقيقة ثابتة أن كافة هذه المشاريع والبرامج رمت لاستحواذ إسرائيل على أكبر مساحة ممكنة، وتحمل عبء أدنى عدد ممكن من السكان، عبر سياسات تطهير وطرد مباشرة وغير مباشرة.

بالمقابل، لم يخرج الفلسطينييون عن خطهم المنادى بالحرية والاستقلال، وإن تنوعت الأشكال والرؤى، ولإن التناقض بنيوي بين المشروعين، لم يقبل حتى اللحظة أي فلسطيني مشاريع التسوية وفق الرؤية الإسرائيلية. فالتناقض يقود إلى عدم اتساق المشاريع والحلول، والداء المركزي الذي هو الاحتلال، وهذا ما يفسر أيضاً انحصار المقاربات الإسرائيلية بالاقتصاد والأمن، حقوق سياسية- اجتماعية فلسطينية.

ثانياً، الفلسطيني اليوم أكثر وعياً بعلاقته مع ذاته، ومع المشروع الصهيوني، وهذا ما أظهرته بجلاء هبة الكرامة 2021، حين انتفض كل الفلسطينيين، في الداخل والقدس والضفة والقطاع والشتات، بوجه المشروع الصهيوني الإقصائي. وإن فُهِمَ المشروع الصهيوني في الداخل على أنه فصل عنصري، وفي الضفة والقطاع والقدس  والشتات على أنه استعماري إحلالي، إلا أن فهم طبيعة المشروع الإقصائية واحد وثابت.

قاد هذا الوعي إلى اشتباك غير متناقض مع المشروع الصهيوني، اشتباك تنوعت أدواته واتسقت غاياته، أنتج قناعة شاملة وراسخة أن دولة تصر على تعريف نفسها يهودية، وتقونن تهميش وإقصاء أصحاب الأرض الأصلانيين، وتتعامل معهم كمقيميين مؤقتين، لن تكون هناك لغة شراكة متاحة معها.

ثالثاً، نحن أمام جيل أكثر شجاعة، متصالح مع نفسه، يعرف هدفه وينظم نفسه بنفسه، كسر الأبوية الوطنية التي نظمت الفضاء السياسي الفلسطيني منذ نهايات القرن التاسع عشر. إن هذا الجيل يمتلك أدوات تنظيمه الذاتية، وينتج حالة من “الفوضى المدروسة”، وهذا ما ينزع من إسرائيل أدواتها في ظل مواجهتها للامتوقع.

استطاع هذا الجيل أن يتجاوز عثرات السياسة الفلسطينية التي وقعت فيها لعقود، واستثمر الفضاء الرقمي لبناء نسيجه الجامع، وتمكن من استثمار تناغمه فسمح لكل فلسطيني في العالم الإسهام والتأثير، خاصة مع استعادة الرواية الأخلاقية للقضية الفلسطينية.

رابعاً، ما زال هذا المشروع الصهيوني يرفض تعريف نفسه كمحتل، لإنه ببساطة لا يرى الآخر، يقبل هذا المشروع بتقديم ليبرالية اقتصادية منزوعة القيم، فالشعب الفلسطيني لا يستحق هذه القيم وفق رؤية هذا المشروع.

تعرف إسرائيل نفسها كدولة ضحية، تقع في قلب غابة من الإرهابيين، وتشير رسالة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون عام 2001 إلى الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش، إلى هذه الرؤية، حيث أشار شارون لبوش أنهما يواجهان ذات العدو، ويجب أن يعملا “كتفاً لكتف” بمواجهة الإرهاب.

تعتمد إسرائيل المقاربة الأمنية بشكل مطلق، وتزاوجه اقتصادياً بـ “تسهيلات” مدروسة من حين لآخر، لكن هذه التسهيلات تبقى أدنى بكثير من الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني. إن التفاف إسرائيل ورفضها تعريف نفسها بحقيقتها جزء من فكرها الاستعماري الذي يشكل امتدادً للفكر الاستعماري الدولي، بجذوره.

وبعيداً عن المحدد الدولي، بدأت تظهر فلسطينياً ملامح مراكمة ثورية، على مستويات الوعي والأثر والتأثير، ففي كل هبة أو اشتباك مع الاحتلال تظهر جديد ويراكم على ما سبق. إن المراكمة الثورية اليوم تقابل بفاعلية عناد إسرائيل الإقصائية، ورفضها لأن تتغير، ما يقود لتصعيد البطش الاستعماري. لكن الفلسطيني اليوم على يقين أكثر من أي وقت مضى باقتراب حريته وتحرره.

إذن، الفلسطينيون اليوم، وبعد 74 عاماً من النكبة، أكثر فهماً لأنفسهم، مشروعهم، مستقبلهم، ونقيضهم. ورغم فداحة الألم اليومي الذي ينتجه الاحتلال، إلا أن الفلسطيني أكثر إيماناً بحتمية انتصاره، وأكثر رفضاً- من أي وقت مضى- لـ “مهدئات” المجتمع الدولي.


[1] أكاديمي وباحث في التنمية السياسية والاقتصاد السياسي- فلسطين.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة
الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعة