loading

نكبة جديدة وجيلٌ أكثر وعيًا..

ياسمين الأزرق

كنا في منتصف أيار من كل عام، نركب حافلاتٍ من كل محافظة، وننطلق إلى رام الله، بينما نرتدي قمصانًا قطنية سوداء تحمل تاريخ 1948، وبأيدينا رايات سوداء موسومة بكلمة “العودة”، منا من ارتدى الكوفية البيضاء والسوداء، ومنا من ربطها بفصيلٍ فارتدى المرقطة بالأحمر، نهتف بصوتٍ واحد أناشيد العودة كأننا كورال يصطف خلف قائد الهتاف وهو يقف أعلى السيارة التي تمشي أمامنا حاملة سماعات كبيرة تصدح منها الأغاني الوطنية بلمسة رومنسية، هتاف واحدٌ حتى تُجرح حناجرنا!

أذكر في عام 2009 أطلق المغني الفلسطيني أحمد قعبور من الشتات في بيروت أغنية “لاجئ سموني لاجئ” غنينا معه وهو أمامنا على الشاشة الكبيرة في قصر رام الله الثقافي، بعد مسيرة أطلقنا خلالها البلالين السوداء في السماء، لا أعلم إن كان ذلك احتجاجا على النكبة أم إحياءً لها أم أنها كانت مراسم احتفالٍ ننتظرها كل عام ليسمح لنا ذوينا بالخروج في رحلة إلى رام الله من جنوب الضفة وشمالها!

هذه الفعاليات اختلفت وتنوعت كل عام، وكانت لها ميزانيتها المخصصة من المؤسسات العامة والخاصة والمراكز في المخيمات، من لافتات إعلانية ضخمة في الشوارع، ملابس خاصة بهذا اليوم، أعلام، أوشحة، لافتات محمولة باليد وصور مطبوعة، وأجرة الحافلات المنطلقة نحو نقطة “الاحتفال” الرئيسية، وكطفلة كان الأمر يسعدني أن أمثل دورًا وُضع لي حيث سمح لي بالهتاف كما شئت مطالبة بحقي في العودة، لكنني لا أعلم الآن كنت أطلب حقي مِن مَن؟

76 عامًا على النكبة..

المسيرات السلمية والهتافات الموسيقية، لم تمنع وقوع نكبة فلسطينية جديدة بصورة أفظع، بل إنها كانت نكبة مستمرة في هذه الحقبة الزمنية الطويلة، وصلت ذروتها منذ الربع الأخير من عام 2023 ولا تزال مستمرة لأكثر من 7 أشهر وكل يوم في نكبتنا الجديدة يكون أقسى من الذي سبقه، ومرتكب النكبتين واحد، لكننا كنا نحاول تبرير أنفسنا أمام العالمين الغربي والعربي، كأننا نضع أكفتنا على الكتاب المقدس كل حسب معتقده الديني، ونقسم أننا قُتلنا بأبشع صورة، وُئدنا في مقابر جماعية، اغتصبت نساؤنا، سُرقت بيوتنا، هُجرنا فنمنا عُراة في الخيام، جُعنا، تشردنا وارتكبت بحقنا المجازر في عام 1948. نقف كل عام أمام القسم ليصدق العالم روايتنا، ويُحيي نكبتنا معنا، ثم يُصافح عدونا، سابقًا، في كواليس الطاولة المستديرة، والآن علنًا أمام الشاشات. 

اليوم وبعد 76 عامًا، صدّق الجيل الجديد روايتنا في اليوم الـ 222 على عدوان غزة، بعد أن استعرضت إسرائيل جرائمها بأبشع صورها وهي تقتل أكثر من 35 ألف إنسان حتى اللحظة، حيث سمحت مواقع التواصل الاجتماعي بفضحها رغم قيود النشر وعقوبات تفرضها الحكومات بحق المتضامنين، لكن صوتَ الأنين الفلسطيني في غزّة كان أعلى من أن يُحجب، صوتُ قرع المنكوبين على جدران الخزان.

هل سيلامُ الضحية مرة أخرى على النكبة الجديدة؟

في نكبة 1948 خرجَ ثلة من الناس بمهاجمة اللاجئين المُهجرين، قال بعضهم: “خرجوا من ديارهم طواعية”، “هربوا خوفًا”، “تخلوا عن أرضهم”، “الجهلُ أعماهم”، ونسيوا آية قال فيها الله “الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق”، فهل كان البحث عن النجاة جُرمًا؟ وما الخوف إلا شعورًا إنسانيًّا طبيعيا، لا يقلل من حقوق المرء ولا تُوجد في معجم اللغة شتيمة يُنادى بها الإنسان “يا خائف”.

أما نكبة عامي 2023/2024 فقد دحضت كل الاتهامات الموجهة بحق ضحايا الحروب، فمن ذا الذي سيحاسب أماً نزحت بطفلها الرضيع بحثًا عن منطقة آمنة لا مكان لها في غزة؟ ومن ذا الذي سيقول أنهم خرجوا من ديارهم طواعية وهم أُخرجوا قسرًا؟ وهل لأحد أن يصف شعب غزة بالجهل وهم النسبة الأعلى من المتعلمين عربيًا، فقد بلغت، قُبيل السابع من أكتوبر نسبة المتعلمين 96.4% من سكان غزة.

وبعد أن تشبت الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من سبعة عقود بروايته التي أنكر فيها مسؤوليته عن النكبة المُقترفة بحق الشعب الفلسطيني عام 1948، وما حملته من مجازر وتهجير، لغياب التوثيق وشُح الأدلّة، ما جعلَ الغرب يقفون يدًا بيدٍ مع إسرائيل دون خوفٍ من محاسبة شعوبهم لهم وإبطال حججهم بالحقائق، جاءت النكبة الجديدة لتفضحَ تواطأهم، وكانت سببًا رغم بشاعتها في إيقاظ شعوبٍ نائمة وجيلٍ جديدٍ يعرف المعنى الحقيقي لحقوق الإنسان، ويصرخُ تحت ترسانات وأسلحة “شرطة الشغب” في بلاده، بأن هذا الألم لا يُقارن مع ما يعانيه الفلسطيني في غزة.

هذه الحرب نقطة فصلٍ، تنسف إحياء ذكرى النكبة غير المجدي، وتخلق وعيًا جديدًا بحقوقِنا كشعبٍ منكوب، وأولها حق الحياة على أرضِنا والعودة إليها.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة