سليم اللوزي
لم يكن وصوله إلى “قاعة مدينة نيويورك” مجرد محطة عادية؛ فعندما صدح صوت مكبرات عربة مترو الأنفاق مُعلنا وصول القطار إلى “City Hall”، لم يكن هذا النداء يشير إلى مجرد وصول الركاب، بل كان إيذانا بوصول زهران ممداني، العمدة الجديد لمدينة نيويورك، الذي اختار هذه المحطة، رمز الطبقة العاملة والمدينة المكتظة، ليعلن منها انتصاره الساحق.
ممداني لم يسحق فقط منافسه الجمهوري كورتيس سليوا، بل أطاح بالمرشح المستقل القوي والحاكم السابق للولاية، أندرو كومو، الشخصية التي كانت تجسد نفوذ المؤسسة السياسية المتهمة بالفضائح. وبهذا المشهد الرمزي، قلب ممداني الطاولة على الأثرياء وذوي النفوذ، مؤكدًا أن الحكم في نيويورك قد عاد إلى “السابواي” وإلى الناس الذين لا يزالون يكافحون لدفع أجرة ركوبه.
لا تبدأ قصة صعود زهران ممداني لمنصب عمدة نيويورك من مكاتب الحملات الانتخابية الصاخبة، بل تبدأ على أرض أوغندا وداخل منزل يشكل بوتقة لـ الفن النضالي والفكر المناهض للاستعمار، حيث نشأ على فهم عميق لـ الهوية المتحوّلة التي ترفض الثبات الجغرافي. صعوده ليس مجرد فوز سياسي، بل هو تجسيد فلسفي لـ انتصار الهامش على المتن؛ فباستخدامه لغة ترفض تبرير الظلم الاقتصادي محليا (مثل المطالبة بتجميد الإيجارات) وتنتقد علنا الاحتلال والفصل العنصري دوليا (عبر مواقفه الصريحة تجاه فلسطين)، حوّل ممداني هويته كـ ابن للدياسبورا والطبقة العاملة إلى قوة دافعة، ليثبت أن الصدق الأخلاقي والتنظيم الشعبي يمكن أن يتفوقا على أموال المؤسسة السياسية وتقاليدها الراسخة، معلنا بذلك ميلاد نموذج جديد للقيادة الأميركية يرتكز على العدالة غير القابلة للتجزئة.
عمدة منحاز إلى أصحاب الأرض أينما وجدوا
يُنظر إلى انتصار ممداني في السباق على أنه انتصار رمزي وسياسي مهم للفلسطينيين وداعمي قضيتهم لعدة أسباب جوهرية، أبرزها موقفه الصريح والجريء وغير التقليدي تجاه القضية، والذي يتناقض بشدة مع المواقف السائدة في المؤسسة السياسية الأميركية.
يُعتبر ممداني من بين عدد قليل من المسؤولين المنتخبين في الولايات المتحدة الذين يتخذون مواقف صريحة جدًا ومناقضة للموقف الأميركي التقليدي تجاه حليفتهم إسرائيل، فالعمدة الجديد شارك في إضراب عن الطعام مدته خمسة أيام خارج العاصمة واشنطن، للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة ومعارضة الدعم الأميركي لإسرائيل في حربها الأخيرة.
صعّد ممداني بعدها من حدّة مواقفه، حين وصف إسرائيل بـ “دولة الفصل العنصري” (Apartheid State)، وهو توصيف يرفضه التيار السياسي السائد في البلاد، ودعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). ليصل به الحال أن يتعهد بأنه في حال وطئ بنيامين نتنياهو (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب) مدينة نيويورك، فإنه سيعتقله.
فوزٌ يعدّ تحديا لـ “الأرثوذكسية المؤيدة لإسرائيل”
يمكننا اعتبار فوز ممداني اختراقًا وتحديًا صريحًا لما يسمى “الأرثوذكسية المؤيدة لإسرائيل” التي تهيمن على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة، وخاصة في مدينة مثل نيويورك التي تضم جالية يهودية كبيرة وفاعلة سياسيا. ففي انتصاره هذا، يظهر ممداني أن المرشح يمكنه الفوز بمنصب كبير في مدينة أميركية رئيسية حتى ولو اتخذ مواقف معارضة للسياسة الخارجية الرسمية وحكومة إسرائيل، وأن هذه المواقف لم تعد بالضرورة “الخط الأحمر” الذي يُنهي المسيرة السياسية للمرشح، كما يظن أغلب الذين يعملون بالشأن العام في هذه البلاد.
كما أنه لا يمكننا أن نغفل التحول في المزاج الشعبي، خاصة بين الشباب والتقدميين، الذين باتوا أكثر تعاطفا وإيمانا بـ عدالة القضية الفلسطينية وأكثر انتقادا لسياسات إسرائيل.
في إحدى الحوارات، هيّج ممداني الرأي المعارض له، عند سؤاله عما إذا كانت إسرائيل لها الحق في الوجود كـ “دولة يهودية”، حين أجاب ممداني بأنه يؤمن بحق إسرائيل في الوجود كدولة “تُوفّر حقوقًا متساوية لجميع سكانها”، وهو ما عُدَّ رفضًا ضمنيًا لتعريفها كدولة قومية حصرية لليهود. كما أنه اتهم الحكومة الفيدرالية بـ “تمويل إبادة جماعية” في غزة، وذكر أن سكان نيويورك مصدومون من هذا التواطؤ، مؤكدًا أن “الاحتلال والفصل العنصري يجب أن ينتهي”.
الجالية الفلسطينية في نيويورك.. ما لها وما عليها!
لا يمكن نكران التأثير الرمزي والمادي المتوقع على الجالية الفلسطينية والعربية في المدينة وجوارها، بالرغم من أن صلاحيات العمدة الجديد تكون محصورة في الشؤون المحلية وليست الخارجية. ولكن، على أبناء الجالية الفلسطينية في المدينة التي لا تنام أن ينظروا إلى ممداني كرمز للنجاح السياسي للمسلمين والأقليات في أميركا، هذا الانتصار يجب أن يحفز الشباب الفلسطيني والعربي هناك على المشاركة الانتخابية والترشح للمناصب المحلية، لأن أصواتهم يمكن تحدث فرقًا حقيقيًا.
على صعيد آخر، فإن أمام هذه الجالية، فرصة حقيقية لمواجهة الإسلاموفوبيا، فممداني استخدم حملته للحديث عن “الإهانات” التي تواجهها الجالية المسلمة والمهاجرين. ووجوده في هذا المنصب يعطي دفعة لمكافحة الإسلاموفوبيا وخطاب الكراهية، مما يخلق بيئة أكثر أمانا وشمولية للجالية.
يمتلك ممداني سلطات تؤثر على القضايا المالية والمدنية التي تلامس الفلسطينيين في نيويورك، إذ قدم – كمشرع سابق في مجلس الولاية- مشروع قانون باسم “ليس على حسابنا” (Not On Our Dime) يهدف إلى تجريد المنظمات غير الربحية التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها من وضعها المعفي من الضرائب إذا كانت “تدعم النشاط الاستيطاني الإسرائيلي” الذي ينتهك القانون الدولي. إذا نجح في تمرير أو دعم تشريعات مماثلة على مستوى المدينة، يمكن أن يؤثر ذلك بشكل مباشر على تدفق الأموال من نيويورك إلى المستوطنات، وهو هدف رئيسي لحركة التضامن مع فلسطين.
يُتوقع أن تكون إدارة ممداني أكثر دعمًا لـ حق التجمع والاحتجاج دون تدخل أو قمع، خصوصا للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين التي غالبًا ما تواجه قيودًا في المدن الكبرى. كما أن هذا الفوز سيعزز من التحالفات السياسية، لا سيما وأن ممداني فاز بدعم واسع من المنظمات التقدمية، بما في ذلك مجموعات يهودية مناهضة للاحتلال مثل “أصوات يهودية من أجل السلام” (JVP Action)، وهذا يعزز التحالفات بين المجتمع الفلسطيني والمجموعات التقدمية الأخرى في نيويورك (سواء كانوا يهودًا، أو من السود، أو لاتينيين)، مما يرفع من قوة الجالية في مطالبة المدينة بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية التي وعد بها ممداني.
الواقعية الضرورية.. العمدة الجديد لن يغيّر العالم!
يعتبر فوز ممداني انتصارًا للفلسطينيين بالفعل، ولكن هذا الانتصار لا يؤثر بشكل مباشر على المفاوضات الإقليمية (ممداني (العمدة) لا يغير السياسة الخارجية الأميركية)، ولكنه يمثل انتصارًا معنويًا وسياسيًا في ساحة الرأي العام الأميركي، حيث أثبت أن الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية يمكن أن تحقق انتصارات انتخابية كبيرة وتتحدى الخطاب التقليدي المهيمن.
يعطي فوز مرشح شاب ومسلم من أصول مهاجرة بأعلى منصب تنفيذي في إحدى أهم المدن الأميركية، دافعًا لجيل جديد من النشطاء والمناصرين العرب والمسلمين والأقليات للانخراط في السياسة والمطالبة بالتغيير. وهذا ما ظهر جليا منذ بدء الحرب الأخيرة، حين خاض “Gen Z” الجيل الجديد، معركة الوعي وإظهار الحقيقة على منصات التواصل الاجتماعي كـ تيكتوك وإنستغرام، ما أضر بالرواية الإسرائيلية التي تحاول دائما طمس الحقيقة وتوجيه الأنظار إلى اتجاهات تخدمها.
من المتوقع أن يساعد وجود شخصية مثل ممداني في هذا المنصب على تطبيع الحديث عن القضية الفلسطينية ضمن النقاش السياسي الأميركي السائد، وجعل انتقاد الإبادة الجماعية والفصل العنصري جزءا مقبولا من الخطاب العام، في محاولة لكسر المحظور الأميركي والمطالبة بمحاسبة المجرمين.
إسرائيليا.. “لحظة الحقيقة وصلت”
لم تتعامل الصحف الإسرائيلية مع فوز ممداني باعتباره مجرد حدث في بلدية أميركية، بل أعلنت من قبل عن أن وصوله سيكون “زلزالا أيديولوجيا” و“نذير شؤم” يضرب قلب الساحة السياسية الأميركية. وصفت الصحف اليمينية والوسطية، مثل “تايمز أوف إسرائيل”، ممداني بأنه “يساري متطرف ومعادٍ لإسرائيل”، وركزت على الخطر الرمزي والفعلي لمواقفه الداعمة لـ المقاطعة ووصفه إسرائيل بـ “دولة الفصل العنصري”.
وبلغ الهجوم ذروته عندما نقلت تقارير عن تهديدات ومطالبات من مسؤولين إسرائيليين بارزين، مثل الوزير عاميحاي شيكلي، الذي وصف ممداني بأنه “داعم لحماس” وقارن أفكاره بـ “المتطرفين”، مطالبًا اليهود بالهجرة. هذا الهجوم المكثف عكس قلقًا عميقًا من أن ممداني يجسد تحولًا يساريًا متناميًا داخل الحزب الديمقراطي بات مستعدًا لتحدي الدعم التقليدي لإسرائيل، مما يهدد بتقويض النفوذ الإسرائيلي في واحدة من أهم مدن العالم الغربي.
صحيفة “جيروزالم بوست” حللت في مقال بعنوان “لماذا عجز يهود نيويورك عن استخلاص العبرة من تجربة كوربن في بريطانيا؟” فوز ممداني، الذي أثار المخاوف، على غرار “كوربن”، من صعود تيار معادٍ لإسرائيل. وقد انبعث هذا القلق من دعم ممداني المعلن لـ حركة المقاطعة ورفضه إدانة شعارات مثل “عولمة الانتفاضة”.
يقر المقال بأن يهود نيويورك فشلوا في تحقيق الوحدة والتعبئة الفعالة لمنع هذا الفوز، وذلك خلافًا لـ “درس كوربن” في بريطانيا. ورغم استبعاد الكاتب لموجة هجرة جماعية فورية إلى إسرائيل، فإنه يتوقع “تحولا” (Churn) ديموغرافيًا داخليًا، حيث تدرس العائلات اليهودية المحافظة الانتقال إلى مناطق أخرى مثل فلوريدا. وفي الختام، يمثل فوز ممداني “نقطة بيانات” خطيرة تؤكد تآكل النفوذ الأيديولوجي في الحزب الديمقراطي، ويدعو الجالية إلى تحويل هذا القلق إلى عمل إيجابي: بناء التحالفات وتجديد الدفاع عن أهمية إسرائيل.
أما صحيفة “هآرتس”، فقد وصفت في مقال بعنوان “ممداني يتعهد بالوقوف ‘ثابتا إلى جانب يهود نيويورك’ بعد انتخابات رئاسة البلدية”، وصول ممداني إلى الحكم بأنه “إسقاطًا لسلالة سياسية”، وطمأنت اليهود إستنادًا لخطاب النصر، بأن ممداني تعهد بالوقوف “ثابتًا إلى جانب يهود نيويورك” في مكافحة معاداة السامية، وبناء قاعة مدينة يشعر فيها أكثر من مليون مسلم بالانتماء. ورغم أن استطلاعات الرأي أظهرت تصويت 33% من يهود المدينة لصالحه ، فإن منظمات يهودية كبرى مثل ADL وUJA-Federation أبدت قلقها من “سجله المقلق” ومعتقداته التي تتعارض مع “أعمق قناعات المجتمع”، مما يشير إلى أن فترة ولايته ستبدأ بمساع معقدة لردم هوة الانقسام الأيديولوجي.
مترو الأنفاق يطيح بسلالة كومو
إن وصول زهران ممداني إلى قاعة المدينة ليس مجرد تغيير في الأسماء؛ بل هو لحظة فاصلة أثبتت أن “الصدق الأيديولوجي” وقوة التنظيم الشعبي يمكن أن تسحق أعتى السلالات السياسية والمؤسسات المالية في أميركا.
لقد منح هذا الانتصار التاريخي الجالية الفلسطينية وداعمي القضية انتصارًا معنويًا وسياسيًا ضخمًا، وفتح الباب لمكافحة الإسلاموفوبيا وتجريد المنظمات الداعمة للاستيطان من الامتيازات الضريبية محلياً.
إن التحدي الآن ليس في الاحتفال بالرمز، بل في تحويل هذا الزلزال الأيديولوجي إلى عمل مؤسسي مستدام، يضمن استمرار هذا التحول نحو العدالة على مستوى المدينة والدولة.




